شحاتة زكريا يكتب: بعد عامين من حرب غزة.. من يكتب الرواية ومن يملك المونتاج؟


الحروب لا تُقاس بعدد أيامها فقط بل بما تخلفه من ندوب في الذاكرة ومن تشققات في السردية ومن محاولات متكررة لاحتكار المونتاج وإعادة تركيب المشهد على مقاس من يملكون الصوت الأعلى. وبعد عامين من حرب غزة لا يزال السؤال معلقا: من يكتب الرواية ومن يملك المونتاج؟
غزة لم تكن مجرد ساحة مواجهة عسكرية بل تحولت إلى شاشة كبرى أمام العالم تُبث عليها وقائع الموت والدمار كما تُعرض صور الصمود والدهشة في مشهد لم يعرف العالم له مثيلا من قبل. هنا تكمن المفارقة فبينما سعى الاحتلال إلى فرض سرديته باعتباره "الضحية التي تدافع عن نفسها"، انكشفت الحقيقة سريعا مع تدفق الصور المباشرة من تحت الأنقاض ومع توثيق الأطفال قبل الكبار لصوت الألم وألوان الركام. فجأة وجد الاحتلال أن المونتاج لم يعد حكرا عليه وأن الرواية لم تعد تُكتب في مكاتب الإعلام الرسمي بل في أزقة المخيمات وعلى شاشات الهواتف الصغيرة.
في الحرب من يملك الكاميرا يملك نصف المعركة. ومن يملك القدرة على إعادة ترتيب الصور يملك النصف الآخر. لكن غزة قدّمت درسا غير مسبوق: الكاميرا لم تعد مقيدة والصور لم تعد تمر عبر بوابة الرقابة والمونتاج خرج من استوديوهات التلفزة ليُصنع في دقائق على منصات التواصل. هكذا تصدّعت الهيمنة الإعلامية الإسرائيلية وانقلبت الآية؛ فالاحتلال الذي اعتاد أن يضع عناوين المشهد وجد نفسه في مواجهة روايات موازية أصدق وأقوى وأكثر إنسانية.
لكن المعضلة لم تنتهِ عند حدود فضح الاحتلال؛ فالمعركة على الرواية لا تزال مستمرة ومحاولات سرقة الوعي لم تتوقف. هنا يطل سؤال أكبر: هل يكفي أن نمتلك الصور والدموع والقصص المروعة أم أننا بحاجة إلى ما هو أبعد؟ الحقيقة أن الرواية لا تُكتب فقط بالحكايات بل تُكرّس أيضا بالتحليل والتوثيق والأرشفة وبالقدرة على تحويل الدم إلى معرفة والركام إلى سرديات محكمة لا تترك فراغا يستثمر فيه الآخرون.
بعد عامين ما زال الخطر قائما: أن نسمح للآخرين بأن يُعيدوا المونتاج بما يخدم مصالحهم. المؤسسات البحثية غرف الأخبار العالمية حتى بعض المنابر التي تدّعي الإنسانية تحاول أن تعيد تركيب الرواية بحيث تُوازن بين "طرفين" غير متكافئين وتحوّل الجريمة إلى "صراع معقد". هذا التشويه البارد هو الوجه الآخر للقصف الساخن.
لذلك فإن مسؤولية من عاشوا الحرب ومن شاهدوها أن يكتبوا روايتهم بأنفسهم وأن يثبتوا الصورة قبل أن يعبث بها الآخرون. ليست المسألة في أن نُراكم مشاهد الألم بل أن نُحوّلها إلى خطاب متماسك يُفهم في العواصم كما يُفهم في الأزقة. الرواية ليست بكاءً فقط بل وعي، وأرشيف ، ومشروع ثقافي وفكري يُقاوم محاولات المحو.
غزة اليوم تقف في منتصف هذا الامتحان: بين ذاكرة حية لا تُمحى بسهولة وبين ماكينة إعلامية عالمية تبحث عن فجوة لتعيد تعريف الضحية والجلاد. ومن هنا تصبح كل شهادة مكتوبة وكل فيلم قصير وكل جملة توثيقية بمثابة حجر إضافي في جدار السردية الفلسطينية.
إن ما يحدث الآن ليس مجرد صراع على الأرض بل هو صراع على الوعي. الاحتلال يريد أن يحتكر المونتاج وأن يختار اللقطات ويُسقط الأخرى. لكن قوة غزة أنها كسرت هذه المعادلة وأنها أجبرت العالم على مشاهدة ما لم يكن يريد أن يراه. ويبقى التحدي الأكبر: أن نستمر في تثبيت الكاميرا على الحقيقة وألا نسمح لأحد أن يُطفئ الضوء أو يُعيد ترتيب المشهد بما يطمس المأساة.
فمن يكتب الرواية ومن يملك المونتاج؟ الإجابة لم تعد أحادية. لقد صار الميدان يكتب، والدم يوثق، والكاميرا تقاوم. وهنا ربما يكون أعظم انتصار لغزة بعد عامين: أنها أجبرت العالم أن يشاهد الرواية الأصلية حتى لو حاولت ألف ماكينة إعلامية أن تعيد مونتاجها.