ميلاد يونان يكتب: بلاد العجائب


في بلاد العجائب، لا تحتاج إلى مجلدات لكي تشرح مأساة المواطن، فقط يكفيك كلمة واحدة تختصر كل شيء اسمها "ممنوع".
الحكاية تبدأ عند مواطنٍ عجوز، متوكئ على عكازه، مؤمن بالعدل وحقوق الإنسان، يمسك في يده شكواه الممهورة بالأمل، ويسير بخطوات مثقلة يبحث عن حقه. يصل إلى باب الوزارة المعنية، حيث يقف موظف بملامح متحجرة، جالس على مقعد خشبي، ينفث مللًا وبيروقراطية.
وقبل أن ينطق العجوز بكلمة، جاءه الرد البارد، كرصاصة تطلق على قلب الأمل:
ــ "الوزارة اتنقلت."
ردّ العجوز: "طيب مفيش سكرتير؟ نائب؟ أي بديل؟ "فجاءه الجواب القاطع "لأ.. مفيش".
وحين جرؤ ليسأل عن تسليم شكواه، انطلقت الكلمة المعتادة: "ممنوع".
خرج العجوز مصدومًا، فإذا بـ"ملاك بشري" يدله على مبنى رئاسة الوزارات في الشارع الخلفي. هناك واجه سورًا حديديًا وكشكًا أمنيًا محشورًا بين السور والجدار. استوقفه فرد الأمن قائلًا:
الدخول "ممنوع وأكمل.. الساعة دلوقت عشرة، أنتظر للساعة 11 ، ميعاد المسؤول الكبير."
طلب العجوز أن يتكئ قليلا على السور!، فجاءه الرد الفوري: "ممنوع."
عبر الشارع .. وجلس المواطن العجوز المرهق على سلالم عمارة مقابلة لمبنى رئاسة الوزارات، كأنه متسول ينتظر صدقة، لا مواطن يطلب حقه. تأمل المشهد بعيون يغمرها الأمل المكسور، حتى ظهر "المسؤول الكبير"!! لم يدخل المبنى بل ظل خلف السور الحديدي. اقترب المواطن العجوز بأدب، قدّم شكواه، ثم سأل برجاء:
"ممكن أتشرف باسم حضرتك؟" فجاءه الرد الحاد: "ممنوع."
طلب صورة من شكواه؟ "ممنوع."
رقم للمتابعة؟ الرد نفسه: "ممنوع .. ممنوع ."
طب حضرتك أيه بالضبط ؟؟؟؟ الإجابة: مستشار
وجاء الختام العبثي: "اذهب بأوراقك، اكتب عليها رقم تليفونك وصوّرها، وصور بطاقتك، وتعالَ!"
المأساة هنا ليست في موظفٍ يردد كلمة ممنوع ببرود، بل في عقلية إدارية كاملة قررت أن المواطن مجرد رقم على ورق، وأن وجوده على أبواب المؤسسات أو الوزارات عبء ثقيل وليست حق مشروع.
هكذا تحولت كلمة "ممنوع" من كلمة إدارية إلى فلسفة نفوذ: "ممنوع" أن تسأل، "ممنوع" أن تعترض، "ممنوع" حتى أن تعرف اسم من يملك قرارك.
ويبقى السؤال المرّ الساخر: متى تتحول "ممنوع" إلى "مسموح"؟ ومتى يُعامل المواطن كصاحب حق، لا كضيف ثقيل على أرصفة الانتظار؟ متسولًا يستجدي خدمة من أبواب الوزارات؟
المؤسسة او الوزارة التي تنسى أن وجودها لخدمة المواطن، لا لتعذيبه، تفقد مبررها قبل أن تفقد ثقة الناس بها.
فالمواطن لم يُخلق ليقف أمام سور حديدي كالمتسول، ينتظر إذنًا بالعبور، بل وُجدت المؤسسات أو الوزارات لتفتح له ابوابها وتصون له كرامته، لا لتعلّقه بين لافتتين: "ممنوع" و"انتظر".
وباختصار… في دهاليز البيروقراطية! الكرامة مرفوضة، والأدق أن تُعلَّق لافتة: "ممنوع دخول الكرامة."
ـ# ميلاد يونان ناشط حقوقي