الثلاثاء 30 سبتمبر 2025 01:44 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

ميلاد يونان يكتب: بلاد العجائب

الكاتب الكبير ميلاد يونان
الكاتب الكبير ميلاد يونان

في بلاد العجائب، لا تحتاج إلى مجلدات لكي تشرح مأساة المواطن، فقط يكفيك كلمة واحدة تختصر كل شيء اسمها ‏"ممنوع‎".‎
الحكاية تبدأ عند مواطنٍ عجوز، متوكئ على عكازه، مؤمن بالعدل وحقوق الإنسان، يمسك في يده شكواه الممهورة بالأمل، ويسير بخطوات ‏مثقلة يبحث عن حقه. يصل إلى باب الوزارة المعنية، حيث يقف موظف بملامح متحجرة، جالس على مقعد خشبي، ينفث مللًا وبيروقراطية‎.‎
وقبل أن ينطق العجوز بكلمة، جاءه الرد البارد، كرصاصة تطلق على قلب الأمل‎:
ــ "الوزارة اتنقلت‏‎."‎
ردّ العجوز: "طيب مفيش سكرتير؟ نائب؟ أي بديل؟ "فجاءه الجواب القاطع "لأ.. مفيش". ‏
‏ وحين ‏جرؤ ليسأل عن تسليم شكواه، انطلقت الكلمة المعتادة: "ممنوع‏‎".‎
خرج العجوز مصدومًا، فإذا بـ"ملاك بشري" يدله على مبنى رئاسة الوزارات في الشارع الخلفي. ‏هناك واجه سورًا حديديًا وكشكًا أمنيًا ‏محشورًا بين السور والجدار. استوقفه فرد الأمن قائلًا‎:
‏ الدخول "ممنوع وأكمل.. الساعة دلوقت عشرة، أنتظر للساعة 11 ، ميعاد المسؤول الكبير‎."‎
طلب العجوز أن يتكئ قليلا على السور!، فجاءه الرد الفوري: "ممنوع‏‎."‎
عبر الشارع .. وجلس المواطن العجوز المرهق على سلالم عمارة مقابلة لمبنى رئاسة ‏الوزارات، كأنه متسول ‏ينتظر صدقة، لا مواطن يطلب ‏حقه. تأمل المشهد بعيون يغمرها الأمل المكسور، حتى ظهر "المسؤول الكبير"!! لم يدخل المبنى بل ظل ‏خلف السور الحديدي. اقترب ‏المواطن العجوز بأدب، قدّم شكواه، ثم سأل برجاء‎:
‏"ممكن أتشرف باسم حضرتك؟" فجاءه الرد الحاد: "ممنوع‏‎."
طلب صورة من شكواه؟ "ممنوع‏‎."
رقم للمتابعة؟ الرد نفسه: "ممنوع .. ممنوع ‏‎."‎
طب حضرتك أيه بالضبط ؟؟؟؟ الإجابة: مستشار
وجاء الختام العبثي: "اذهب بأوراقك، اكتب عليها رقم تليفونك وصوّرها، وصور بطاقتك، وتعالَ‎!"‎
المأساة هنا ليست في موظفٍ يردد كلمة ممنوع ببرود، بل في عقلية إدارية كاملة قررت أن المواطن ‏مجرد رقم على ورق، وأن وجوده على ‏أبواب ‏المؤسسات أو الوزارات عبء ثقيل وليست حق مشروع‎.‎
هكذا تحولت كلمة "ممنوع" من كلمة إدارية إلى فلسفة نفوذ: "ممنوع" أن تسأل، "ممنوع" أن تعترض، ‏"ممنوع" حتى أن تعرف اسم من ‏يملك قرارك‎.‎
ويبقى السؤال المرّ الساخر: متى تتحول "ممنوع" إلى "مسموح"؟ ومتى ‏يُعامل المواطن كصاحب ‏حق، لا كضيف ثقيل على أرصفة ‏الانتظار؟ متسولًا يستجدي خدمة من أبواب الوزارات؟ ‏
‏ المؤسسة او الوزارة التي تنسى أن وجودها لخدمة المواطن، لا لتعذيبه، تفقد مبررها قبل أن تفقد ثقة الناس بها‎.
فالمواطن لم يُخلق ليقف أمام سور حديدي كالمتسول، ينتظر إذنًا بالعبور، بل وُجدت المؤسسات أو ‏الوزارات لتفتح له ابوابها وتصون له ‏كرامته، لا لتعلّقه بين لافتتين: "ممنوع" و"انتظر‏‎"‎‏. ‏
وباختصار… في دهاليز البيروقراطية! الكرامة مرفوضة، والأدق أن تُعلَّق لافتة: "ممنوع دخول الكرامة‎."‎
‏ ‏
‏ ـ# ميلاد يونان ناشط حقوقي

ميلاد يونان بلاد العجائب الجارديان المصرية