الأربعاء 1 أكتوبر 2025 03:58 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

خالد درة يكتب ﻣﻦ باريس : بالعقل أقول …( ريفييرا غزة على عظام الموتى …! )

الكاتب الكبير خالد درة
الكاتب الكبير خالد درة

في أول يوم لي في بغداد ، و بعد أن هدأت نيران الهاون ، توجهتُ إلى مكتبي في القصر الجمهوري و بدأت بأول مهمة أُوكلت إليّ ، و هي : كتابة سياسة جديدة للشرطة العراقية بشأن الضابطات الحوامل ..

للتوضيح ، كنت في السادسة و العشرين من عمري ، و لم أكن أعرف شيئًا عن الشرطة ، و لا عن الحمل ، و لا حتى عن العراق، لكنني كنت جزءًا من سلطة التحالف المؤقتة - الحكومة الأمريكية التي فُرضت بعد الحرب - و قيل لي إن هذه السياسة هي ما يحتاجه العراق ..

بعد خمس سنوات ، وجدت نفسي جالسًا في جناح فندقي فاخر بالقدس ، بينما كان توني بلير - أحد مهندسي حرب العراق ، و هو الآن المبعوث الخاص للجنة الرباعية لعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية - يُشيد بالنمو الاقتصادي الذي تشهده مدينة جنين الفلسطينية ..

بعد أن أمضيت وقتًا طويلًا في اليوم السابق في عبور نقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية العديدة التي تفصل شوارع جنين المُغبرة عن فندق "جيرمان كولوني" ذي الخمس نجوم ، حيث كنا نلتقي ، لم أستطع التوفيق بين انطباع بلير و واقعي ..

و لكن ها نحن هنا مرة أخرى ، في عام 2025 ، نتحدث عن حكومة احتلالية غربية مفروضة على منطقة الشرق الأوسط ــ و يقودها بلير ، لا أقل ــ مع نفس الرؤى القديمة للازدهار الاقتصادي المنفصلة عن الحقائق على الأرض أو حقوق الشعب .. فلن ينجح الأمر ، و لا ينبغي الوثوق به ..

فرض الحكم من الخارج "مشروع استعماري"
أولاً ، و الأهم ، هناك مسألة الشرعية و الملكية المحلية .. فتقرير المصير ليس مجرد حق مكفول بموجب ميثاق الأمم المتحدة ، بل هو رغبة أساسية لدى جميع الشعوب في تشكيل شؤونها و بناء مجتمعاتها .. فإن فرض الحكم من الخارج - و هو مشروع استعماري ذو تاريخ طويل قائم على استخراج الثروة من خلال قمع الحرية - ليس ببساطة مسارًا مستدامًا نحو سياسة مستقرة ، لأنه بطبيعته يفتقر إلى الدعم الشعبي أو التأييد ، و غير قادر على فهم دقيق و كافٍ للثقافة و الديناميكيات المحلية ..

إن حكومة بقيادة بلير في غزة ستكون ، تمامًا مثل الحكومة الأميركية في العراق ، زرعا غير متوافق سيرفضه الجسم ، مما يؤدي إلى حلقة من العنف و التصعيد يمكن تجنبها تماما ..

حسنًا ، لا أحد تقريبًا مهتم .. جاريد كوشنر ، شريك بلير في هذا المشروع ، هو ، مثل كبير المفاوضين الأميركيين ، ستيفن ويتكوف ، بل و حتى دونالد ترامب نفسه ، مطور عقاري في جوهره ..

في غزة ، لا يرى كوشنر ثقافة مزدهرة و نابضة بالحياة يتزامن تاريخها مع صعود الأهرامات .. بل يرى فقط ما تفعله إسرائيل بأسلحة أميركية : خراب مُسوّى بالأرض على قطعة ساحلية مميزة - موقف سيارات على شاطئ البحر جاهز لإعادة التطوير .. هذا هو خياله الاقتصادي ..

في مواجهة الدمار الذي نراه الآن ، لا تبدو هذه الرؤى غير جذابة .. فلماذا نتحدث عن غزة يُعاد بناؤها من أجل الفلسطينيين و بواسطتهم ، بينما يمكن لشاطئ ساحلي متلألئ أن يمنح هؤلاء الناس نصيبًا من الرخاء الذي نتج عن المدن غير المتصورة التي بُنيت بين عشية وضحاها على شواطئ الشرق الأوسط ..

يحظى هذا المقترح بدفعة عملية بفضل إصرار إسرائيل على رفضها قيام دولة فلسطينية أو سيطرة فلسطينية على غزة ، و إدراكها من التجارب الأخيرة أن أي شيء لا تريده إسرائيل في غزة المحاصرة - أي مواد بناء ، أي إعادة إعمار - لا يمكن أن يحدث ..

الرؤية المصرية ..
لكن العالم ليس مضطرًا لمجاراة هذا الاستعمار الجديد المُزيف .. فالخطة العربية التي تقودها مصر لغزة تطرح بديلًا واضحًا : حكومة فلسطينية مؤقتة تكنوقراطية تُفضي إلى إعادة تشكيل حكومة فلسطينية منتخبة ديمقراطيًا ، و إعادة إعمار غزة يصممها و يقودها و ينفذها الشعب الفلسطيني ..

و قد لا يُعظّم هذا النهج ربحية الاستثمار في غزة ، كما أنه سيحرم بلير من العودة من مستشار إلى حاكم .. لكن التاريخ - بل التاريخ الحديث جدًا - يُظهر أن اقتراح كوشنر-بلير ليس فظاعة أخلاقية فحسب ، بل فظاعة سياسية أيضًا ..

فلا يزال آلاف الفلسطينيين مدفونين تحت أنقاض غزة ، و مع ذلك يتوق آلاف آخرون لإعادة إعمارها .. لا يُمكن بناء ريفييرا على عظام الموتى ، و لا يُمكن بناء احتلال على تطلعات الأحياء ..

نقلا عن جوش بول الذى عمل كمستشار للأمن الوطني في سلطة التحالف المؤقتة في العراق ، و مستشارًا لحوكمة قطاع الأمن لدى منسق الأمن الأمريكي لإسرائيل و الأراضي الفلسطينية ، و هو الآن يقود مجموعة المناصرة غير الربحية " سياسة جديدة" ومقرها واشنطن العاصمة .

خالد درة باريس : بالعقل أقول …( ريفييرا غزة على عظام الموتى …! ) الجارديان المصرية