د. نهال أحمد يوسف تكتب: نصوص مفهوم الشعر: استنطاق العذارى من بطون الدواوين


إنّ كتاب "نصوص مفهوم الشعر من القرن الثاني إلى الخامس الهجري"، وهو أحدث إصدارات الأستاذ الدكتورالعالم أحمد يوسف علي، ليس مجرد جمعٍ أو تبويب، إنما هو مشروع معرفي جريء يقتحم منطقة بكر في تاريخ النقد العربي. يمثل هذا العمل محاولة جادة لقلب موازين الحوار النقدي؛ إذ ينتقل ببوصلة التأويل من أقوال النقاد الفلاسفة – أمثال ابن سلام وقدامة والآمدي - إلى صوت الشاعر الخالص، ليجعل من "الشعر عن الشعر" متناً نقدياً لا يقل أهمية عن التنظير السردي.
تكمن القوة العلمية للكتاب في منهجه الحصري والكمّي. يتبنى المؤلف منهجاً تاريخياً كمّياً صارماً، حيث قام بحصر وتصنيف قرابة 4717 بيتاً شعرياً، بالإضافة إلى النصوص النثرية والمرويات، على مدى أربعة قرون أدبية. هذا الإحصاء الدقيق يُنتج رؤية بانورامية لـ "وعي الشاعر" المتطور بفنه. ويكشف التحليل الكمّي عن نتائج صادمة؛ فبينما كان إسهام المتنبي (92 بيتاً) محدوداً نسبياً، نجد غزارة مدهشة عند ابن الرومي (1045 بيتاً) ومهيار الديلمي (1488 بيتاً)، مما يدل على أن حمّى التنظير الذاتي لم تكن حكراً على نجوم الصف الأول المتعارف عليهم في كتب الأدب.
إبداعية الكتاب تتجلى في استخلاصه لـ "الجانب الكيفي" من هذا المتن الكمّي الهائل. لقد أدرك المؤلف أن هذه النصوص ليست مجرد "هواجس" ذاتية، بل هي "رؤية" نقدية تباينت مع النقد المكتوب. ففي حين انحاز النقاد القدامى للجذور، اضطر شعراء الحداثة (كأبي تمام وابن الرومي) إلى تعرية رؤيتهم للشعر بالشعر، مؤكدين أن الشعر مصدر للمعرفة وليس مجرد تسلية، وأن قيمته تكمن في كونه "كلمات حكت أبردها" وأنها "باقيات على الأحساب"، خلافاً للماديات الزائلة.
يُظهر الكتاب كيف تحولت القصيدة إلى "سِجال فلسفي" يتناول مصادر الإلهام، ووظيفة الشاعر كـ صاحب منطق شريف، وعلاقته بالعقل والجنون والسحر. ويصل التطور إلى قمته مع أبي العلاء المعري، الذي لم يكتفِ بـ "الشعر عن الشعر" بل كتب النقد في "مقدمتي السقط واللزوميات"، ليجمع بين سيف الشاعر وقلم الناقد، مُعلناً عن نهاية مرحلة.
في الختام، ينجح هذا السِفر في انتزاع الاعتراف بجمالية ووظيفية هذا النوع من النصوص، مؤكداً أن النظرة القاصرة،كما قال المؤلف، التي لم "تُنصت لقول الذين يعرفون مضايق الشعر ومداخله وهم الشعراء" تظل نظرة ناقصة. إنها دعوة لاستجلاء النقد من قلب الإبداع ذاته.