الإثنين 27 أكتوبر 2025 06:54 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حكايات مصيرية

الكاتب الصحفي الحسيني عبد الله يكتب: (الحرامي)

الكاتب الكبير الحسينى عبدالله
الكاتب الكبير الحسينى عبدالله

رنَّ جرس هاتفي، وعند الإجابة جاء صوتها ضعيفًا حزينًا، وقالت بصوت باكٍ:
«إنّ عندي مشكلة كبيرة في حياتي، وأريد منك المساعدة».
واستطردت قائلة:
«أنا امرأة في العقد الخامس من العمر، وأم لثلاثة أولاد في سنّ المراهقة والشباب، اثنان منهم في الجامعة».
فسألتها: «وما هي المشكلة؟»
وجاءت الإجابة الصادمة:
«أولادي سرقوا مني!»
قلت متعجبًا: «ماذا؟!»
فأجابت: «نعم، لقد سرقهم الحرامي، وليس لديّ القدرة على استرجاعهم، فماذا أفعل؟»
سألتها مرة أخرى: «ومن هو الحرامي الذي سرق منك أولادك؟»
قالت: «لم يسرق أبنائي أنا فقط، بل سرق كل أطفالنا وكل أولادنا في سنّ المراهقة...! إنه العالم الافتراضي المتمثل في الموبايل وما يحتوي عليه من وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة».
الشباب الآن لا وجود لهم في الحياة الحقيقية، لا يفعلون شيئًا سوى العيش في عالمٍ افتراضي، محبوسين خلف الشاشات.
وتساءلت:
«هل رأيتم في حياتكم سجنًا اختياريًّا؟!»
وكانت الإجابة: إنّ هذا دربٌ من الجنون!
فعندما خلق الله الإنسان خلقه حرًّا، يحبّ العيش بحرية، ويتحرّك دون قيود.
لكن مع ظهور التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي اختارت الأجيال الجديدة الحبسَ الاختياري خلف الشاشات البيضاء، يعيشون في عالمٍ من الهلامية الافتراضية، وكأنه عالمٌ حقيقي، دون النظر إلى الواقع والمستقبل.
الأطفال من سنّ عامٍ أو أقلّ حتى سنّ المراهقة في عالمنا العربي يرفضون بشكلٍ قاطع ترك الموبايل، مما يسبب مشكلاتٍ أسرية وحياتية داخل البيوت، وقد يكون السببَ الرئيسَ لكلّ المشكلات الأسرية، والتأخر الدراسي، وضياع الأبناء، هو هذا التطور الملعون المسمّى التكنولوجيا.
ولعلّ سائلًا يسأل: ما الداعي إلى كتابة هذا المقال؟
والإجابة: إنّ ما دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع هو دراسةٌ فرنسية نُشرت حديثًا، أُعدّت بناءً على طلبٍ من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتؤكّد الدراسة على ضرورة منع الأطفال من استخدام الهواتف الذكية ومعظم وسائل التواصل الاجتماعي حتى سنّ 18 عامًا.
وجاء في التقرير، الذي نشرته صحيفة الجارديان، أنّه يجب منع الأطفال من استخدام الهواتف الذكية حتى يبلغوا 13 عامًا، كما يجب منعهم من الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي التقليدية مثل سناب شات وتيك توك وإنستغرام حتى يبلغوا 18 عامًا.
وكان الرئيس الفرنسي ماكرون قد طلب من العلماء والخبراء اقتراح إرشاداتٍ لاستخدام الأطفال للشاشات، بهدف اتخاذ الدولة خطواتٍ غير مسبوقةٍ للحد من تعرّضهم لها.
وخلصت الدراسة إلى نتائج شديدة اللهجة، جاء فيها أنّ الأطفال بحاجةٍ إلى الحماية من «استراتيجيات صناعة التكنولوجيا التي تهدف إلى الربح من خلال جذب انتباه الأطفال، واستخدام جميع أشكال التحيّز المعرفي لإبقائهم أمام الشاشات، والسيطرة عليهم، وتحقيق الدخل عبر ذلك».
وأضاف التقرير أن الأطفال أصبحوا «سلعة» في سوق التكنولوجيا الجديدة، وقال بلهجةٍ صارمة:
«نريد أن يعرف القائمون على وسائل التواصل الاجتماعي أننا رأينا ما يفعلونه، ولن نسمح لهم بالإفلات من العقاب».
وقدّمت الدراسة توصياتٍ منها: وجوب منع الأطفال دون سنّ السادسة في رياض الأطفال من استخدام الشاشات بشكلٍ كامل، وألا يُعطى الأطفال في المرحلة الابتدائية أجهزةً لوحية للعمل عليها.
وتأتي هذه الدراسة استكمالًا للمرحلة الخامسة من المشروع القومي الفرنسي الذي بدأ قبل ثلاث سنوات، وتحديدًا في 17 يونيو عام 2021، حين أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزمه الحشد لتشجيع القراءة كقضيةٍ وطنيةٍ فرنسية، من خلال المكتبات والمعلمين.
وأوضح في تغريدةٍ على حسابه بموقع تويتر:
«لأنه يجب إعادتها إلى قلب الحياة الفرنسية، قرّرت أن أجعل القراءة قضيةً وطنيةً عظيمة».
وأضاف:
«مع المعلمين، والجمعيات، وبائعي الكتب، والمكتبات، والكتّاب، سنحشد لهدفٍ واحد: جعل الناس يقرأون!».
ومنذ ذلك التصريح، قبل ما يقرب من أربعة أعوام، تعمل الحكومة الفرنسية على جعل «القراءة» قضيةً وطنية، وشرعت في حملة توعيةٍ لتشجيع ممارستها، خصوصًا لدى الأطفال الصغار في المدارس.
ومع مطلع عام 2023 ظهر بوضوحٍ مدى أهمية القراءة في الربط بين التطور الفكري والتنمية؛ فكلما تعلّم الإنسان واكتسب مهاراتٍ جديدة استطاع المساهمة بشكلٍ أكبر في التنمية.
وهناك دراسة حديثة حذّرت من مخاطر غياب القراءة العميقة، وتقليص الوقت المخصص لها، مقابل تزايد الوقت المخصص لوسائل التواصل الاجتماعي والإصدارات الإلكترونية.
وهو ما يتطلّب تضافر القوى المجتمعية للحثّ على القراءة، مثلما فعلت جمعية «اسكت.. إننا نقرأ»، وهي جمعيةٌ أهليةٌ فرنسية تقوم بدورٍ رائدٍ في تشجيع القراءة، ونجحت في إقناع أكثر من ألف مؤسسةٍ تعليميةٍ فرنسية بتبنّي فكرة العودة إلى القراءة بحيث تصبح نشاطًا دراسيًا يوميًا لا تقل مدته عن ربع الساعة مهما كانت الظروف، بحسب تقريرٍ نشرته صحيفة الشرق الأوسط قبل عامين ونصف تقريبًا.
والحقيقة أنّ العودة إلى القراءة لا تعني العداء مع وسائل التكنولوجيا الحديثة كشبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، بل لا بدّ من التكامل بينها جميعًا دون تعارضٍ أو عداء.
فالقراءة العميقة لها فوائد ضخمة، مثل تطوير التفكير، وتحسين الذاكرة، وتعزيز التركيز والانتباه، وتنمية الحسّ النقدي لدى الفرد.
وكل ذلك كان وراء التقدّم البشري الهائل الحاصل الآن، وفقدانه يعني خسارةً كبيرةً للأفراد والمجتمعات على السواء.

الكاتب الصحفي الحسيني عبد الله يكتب: (الحرامي)