الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 01:18 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

شحاتة زكريا يكتب: القصة ليست في الحدث… بل في ما يُحاك خلفه

الكاتب الكبير شحاتة زكريا
الكاتب الكبير شحاتة زكريا

فى عالم يمتلئ بالضجيج لم يعد الحدث هو البطولة الحقيقية للمشهد بل ما يُحاك خلفه وما يتخفّى بين السطور وما يجرى فى الغرف المغلقة بينما تنشغل العيون بالصورة الكبيرة. الناس تتعامل مع الأخبار كما تُعرض عليهم لكن الدول والفاعلين الحقيقيين وصناع القرار يدركون أن الصورة الظاهرة ليست إلا سطحا عائما فوق بحر عميق من الحسابات والمصالح والتحالفات. وفى لحظة تتغير فيها قواعد اللعبة الإقليمية والدولية يصبح فهم ما وراء الحدث أهم من الحدث نفسه.

فى السياسة ليس المهم الإعلان بل التوقيت. ليس المهم التصريح بل الرسالة المخفية داخله. ليس المهم من يظهر فى الصورة بل من غاب عنها. هناك أحداث تُقدَّم للجمهور باعتبارها حقيقة ، بينما الحقيقة الحقيقية تعيش فى مكان آخر تماما: فى تفاوض لم يُعلن أو تحالف يتشكل بصمت أو خصومة تُدار بالملاينة لا بالمواجهة.

المنطقة اليوم تمشى فوق خيط مشدود. الحروب لا تُعلن بالمدافع فقط بل تُدار عبر أدوات ناعمة تُغير توازنات القوى دون إطلاق رصاصة. الصفقات الاقتصادية أصبحت غطاء لصياغة خرائط جديدة والتحركات الدبلوماسية ليست مجرد زيارات بروتوكولية بل رسائل تُكتب بلغة الإشارات. العالم يتغير فى الكواليس بينما الناس تتابع العناوين الكبيرة وتنسى أن العناوين دائما هى الجزء الأقل أهمية فى أى قصة سياسية.

خذ مثلا التحركات التى تشهدها المنطقة فى الأشهر الأخيرة:
تصريحات تبدو متناقضة لقاءات تُعلن وأخرى لا تُعلن اتفاقيات اقتصادية تُبرم بينما الخلاف السياسى لا يزال قائما وقف إطلاق نار هنا واشتباكات هناك… كل هذه ليست أحداثا بل إشارات. والإشارة فى السياسة أخطر من القرار أحيانا لأنها تكشف ما يجرى خلف الستار دون أن تقوله مباشرة.

الدول الكبرى نفسها تعيد ترتيب أوراقها بصمت. لم تعد التحالفات تُعلن بصوت مرتفع بل تُبنى عبر خطوات صغيرة متتابعة ورسائل تبادلية ومصالح تُعيد تقريب من كانوا بعيدين وتُبعد من كانوا قريبين. ومن لا يفهم ما وراء هذه الحركة يرى الحدث معزولا بينما هو فى الحقيقة جزء من لوحة أكبر بكثير.

وفى وسط كل هذا تظهر قوة الدولة التى تفهم اللعبة دون أن تُعلن أنها تفهم. الدولة التى تقرأ الرسائل الخفية فى المواقف وتفهم المعنى من الصمت قبل الكلام. مصر مثلا تتعامل مع هذا المشهد بمنطق الحكمة الهادئة؛ لا تنجر لصخب اللحظة ولا تنكشف أمام حسابات قصيرة المدى ولا تسمح بأن يُستدرج وعيها إلى معارك كلامية بينما المعركة الحقيقية مكان آخر. وهذا ما يجعل الدولة تبدو ثابتة بينما غيرها يتأرجح.

فالقوة ليست أن تملك معلومات بل أن تحسن قراءتها. وليست أن ترى الحدث بل أن ترى ما يختبئ تحته. وليست أن ترفع صوتك بل أن تعرف متى تصمت. الشرعية الحقيقية للدول تُبنى من قدرتها على قراءة اللحظة وتوقع خطوات الآخرين وفهم ما الذى يُخطط لمستقبل المنطقة بعيدا عن الضوضاء.

والمواطن كذلك لم يعد كما كان. الناس اليوم أصبحت أكثر وعيا وأكثر قدرة على إدراك أن الحدث مجرد واجهة وأن الحقيقة دائما أعمق. أصبحوا يدركون أن وراء كل بيان ما هو أهم منه، ووراء كل حركة سياسية ما هو أخطر منها ووراء كل أزمة ما هو أكبر من حدودها الظاهرة.

وهنا يصبح السؤال: ماذا يخبئ الحدث؟
ما الذى يحاول أن يغطّيه؟
من المستفيد؟
ومن الذى يكتب السيناريو الحقيقي بينما تنشغل العيون بالعرض المسرحى؟

الإجابة ليست ثابتة لكنها دائما موجودة خلف الستار.
السياسة ليست لعبة واضحة بل شبكة معقدة من المصالح المتشابكة وكل حدث فيها—مهما بدا بسيطا—هو رسالة تحمل ما هو أبعد من ظاهرها.

وهكذا… بينما يتابع الناس العناوين تدور المعركة الحقيقية فى مكان آخر.
فالقصة لم تكن يوما فى الحدث…
القصة دائما فى ما يُحاك خلفه.

شحاتة زكريا القصة ليست في الحدث… بل في ما يُحاك خلفه الجارديان المصرية