الخميس 20 نوفمبر 2025 05:11 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

مدحت الشيخ يكتب : المال السياسي بين إفساد السياسة وفساد الذمم

الكاتب الكبير مدحت الشيخ
الكاتب الكبير مدحت الشيخ

لم يعد المال السياسي مجرد ظلٍّ باهت يمر في مواسم الانتخابات، بل أصبح حقيقة فاقعة تتسلل إلى كل زاوية في المشهد العام، تُعيد تشكيل الخريطة السياسية بعيدًا عن إرادة الناس، وتدفع الوطن كله ثمنًا لفواتير لا يعرف أحد مصدرها ولا حجمها ولا متى تُسدّد.

نحن أمام ظاهرة لم تعد تُخفى:
قوة مالية تُحوِّل السياسة من ساحة تنافس شريف إلى مزاد علني يتقدّم فيه من يدفع، لا من يفهم… من يملك، لا من يُجيد… من يشتري الصمت، لا من يصنع التأثير.

المال السياسي لا يكتفي بتلويث صناديق الاقتراع، بل يمدّ يده إلى ما هو أعمق:
يمدّ يده إلى ضمير المواطن.
إلى ثقته في الدولة.
إلى إيمانه بأن صوته خط دفاع أول عن مستقبله.

فتجد الأصوات تُباع كما تُباع السلع، والذمم تُقاس بالعملة، والمرشح يخرج من معركة الصندوق منتصرًا بالمال، مهزومًا بالمعنى.

وما حدث مؤخرًا من إلغاء الانتخابات في بعض الدوائر لم يأت من فراغ، ولم يكن قرارًا إداريًا عابرًا، ولا إجراءً تنظيميًا بسيطًا.
هو مؤشر خطير يلمّح إلى أن المال حين يفيض على المشهد، تعجز القواعد الجماهيرية عن مواصلة اللعبة، ويتحوّل التنافس من برامج ومواقف إلى سباق مفتوح بين خزائن ممتلئة وضمائر فارغة.

الأخطر أن المال السياسي لا يُفسد الانتخابات فقط، بل يُعيد تشكيل المجتمع نفسه:
يخلق فئة ترى صوتها رأس مال، وفئة أخرى ترى شراء الأصوات "شطارة"، وفئة ثالثة تُمارس الفساد ثم ترفع الصوت شاكِيَة من الفساد!
هكذا يتآكل الوعي، وتترسخ الممارسات، وتصبح السياسة ساحة تُدار بالمال لا بالمسؤولية.

وإذا كانت بعض القوى تراهن على شراء الأصوات، فهناك قوى أكبر تراهن على شيء آخر: رهان على غياب الوعي.
يعتقد البعض أن الناخب يستطيع أن يبيع صوته ويستعيد احترامه بعدها.
أن يقبض ثمن لحظة، ويظل يحتفظ بحقه في أن يحاسب، ويطالب، ويغضب.
وهذا وهم كبير…
فمن سلّم إرادته ليوم، تسلّم حياته لمن لا يستحق لسنين.

السياسة ليست "مشروع مقاولات"، ولا العملية الانتخابية "سوق خيارات".
السياسة مسؤولية.
والانتخابات عقد شرف قبل أن تكون منافسة.
والذمم حين تُفسد مرة، يصعب إصلاحها ألف مرة.

لكن… ولأن التاريخ لا يرحم، ولأن الشعوب مهما بدت صامتة فهي تستيقظ في اللحظة الحاسمة، سيأتي اليوم الذي يدرك فيه الجميع أن:
المال قد يشتري الأصوات، لكنه لا يشتري المستقبل… ولا يُخضع وطنًا قرر أن يفتح عينيه.

مدحت الشيخ المال السياسي بين إفساد السياسة وفساد الذمم الجارديان المصرية