الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 05:36 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : العالم… والعولمة… والعوالم الخفية

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

في كل مرة يقترب فيها حدث عالمي ضخم مثل كأس العالم، يظن الناس أن الصراع سيكون رياضيًا بحتًا، وأن الجدل سيدور حول اللاعبين والتحكيم والملاعب، لكن الحقيقة أن ما يدور خلف الكواليس أكبر بكثير من كرة تُركل على عشبٍ أخضر. إنه صراع على الوعي، على الهوية، على شكل الإنسان الذي يريد الغرب أن يصنعه كما يشاء. فالمنظومة الغربية اليوم لا تصدّر فقط التكنولوجيا والمنتجات، بل تريد أن تصدّر نسخة واحدة من “الإنسان الحديث” كما تتخيله هي: إنسان بلا دين واضح، بلا جذور، بلا ثقافة صلبة، بلا هوية تجمعه؛ إنسان يعيش ليستهلك، وينسى أصله، ويندمج بلا مقاومة داخل العالم الجديد الذي يحاولون تشكيله وفق ما يناسب مصالحهم. ومن هنا يتضح لماذا تُصرُّ بعض المؤسسات الغربية على رفع شعار المثلية في كأس العالم القادم، فالأمر ليس دفاعًا عن فئة ولا تعبيرًا عن حرية، بل هو اختبار ثقافي لمدى قدرة الشعوب على الصمود أمام هذا الضغط، ومدى استعدادها لقبول إعادة تشكيل وعيها وقيمها. يريدون أن يصبح المشهد مألوفًا في شوارعنا ومنازلنا ومدارسنا، وأن يتسلل إلى عقول أطفالنا حتى يصبح الاعتراض نفسه “تطرفًا” وتصبح الفطرة “تخلفًا”.
ومع رفض معظم الدول العربية والإسلامية لهذا الدفع الإجباري، بدأت الاتهامات الغربية المعتادة: تخلف، عدم تقبل الآخر، جهل… مع أن هذه الدول لم تعترض يومًا على حرية الغرب في ممارسة ما يريد داخل حدوده، لكنها ترفض فقط أن يُفرض عليها ما يخالف دينها وأعرافها وضميرها. وهنا يظهر السؤال الذي يحاولون الهروب منه دائمًا: أين احترام الآخر إذا كنتم تجبرونه على ما لا يؤمن به؟ وأين الحرية إذا كان الرفض جريمة؟ إن الغرب يريد من الشرق شيئًا واحدًا: أن يفقد هويته. يريدون دينًا بلا تأثير، وأسرة بلا ثوابت، وطفلًا بلا فطرة، وشابًا بلا انتماء، ومجتمعًا بلا جذور، يريدون أن نصبح أفرادًا مُعاد تصنيعهم وفق النموذج الذي يضعونه هم فقط، حتى تسهل قيادتنا والسيطرة علينا وإدماجنا داخل عولمة لا تحترم إلا من يشبهها. إنهم لا يخوضون معركة شعار، بل يخوضون معركة قيم، معركة تشكيل إنسان جديد، معركة إعادة تعريف الطبيعي واللاطبيعي، والمقبول والمرفوض.
ورغم كل الاجتماعات السرية ومحاولات الضغط والتهديد الخفي، تبقى الشعوب هي الكلمة الأخيرة. فهذه الأمة التي واجهت قرونًا من الاحتلال العسكري والفكري لا يمكن أن تهزمها راية تُرفع في مباراة، ولا يمكن أن تُسحق قيمها ببضع ألوان على قمصان اللاعبين. أمتنا ليست صفحة بيضاء، ولا رقعة شطرنج يتلاعب بها الآخرون. نحن أبناء حضارة تمتد جذورها آلاف السنين، حضارة صمدت أمام الغزوات والدول والإمبراطوريات، ولن تهتز أمام موجة فكرية عابرة مهما علا صوتها.
وفي خضم هذا الصراع، يظهر الفارق بين من يعرف من هو، وبين من يريدون له أن ينسى نفسه. نحن لا نرفض أحدًا، بل نحترم الجميع، لكننا نرفض أن يفقد أطفالنا فطرتهم أو تُقتلع قيمنا من جذورها. نرفض أن يتحول المجتمع إلى نسخة غربية مشوهة، نرفض أن يملي علينا أحد كيف نعيش وماذا نؤمن وماذا نقبل وماذا نرفض. نحن نعرف طريقنا، ونعرف جذورنا، ونعرف ماذا يعني أن تكون أمةً لها هوية لا تتغير.
وفي النهاية، يبقى اليقين ثابتًا بأنّ العالم اليوم يعيش صراعًا صامتًا بين من يريد أن يذيب الجميع في قالب واحد، وبين من يريد أن يبقى مختلفًا كما خلقه الله. وليس عيبًا أن نكون مختلفين، بل العيب أن نتخلى عن أنفسنا لنشبه غيرنا، العيب أن نجعل الآخر يكتب تاريخنا ويرسم مستقبلنا، العيب أن نقبل بأن تذوب قيمنا تحت ضغط الشعارات. نحن أصحاب تاريخ وروح، أصحاب نور يبدأ من الدين وينتهي إلى الأخلاق والفطرة السليمة.
وقد يضغطون، وقد يهاجمون، وقد يشوهون، لكنهم لن ينتصروا. فالقيم التي نحملها ليست صناعة بشر، بل هدية من نور الله الذي لا ينطفئ. والشرق، مهما حاولوا تركيعه ثقافيًا وأخلاقيًا، سيظل واقفًا، شامخًا، حافظًا لهويته، مؤمنًا بأن ما نملكه في داخلنا لا تستطيع قوة على الأرض أن تنتزعه.

العالم… والعولمة… والعوالم الخفية حسين السمنودي الجارديان المصرية