الجمعة 12 ديسمبر 2025 11:55 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. علي الخطيب يكتب : مهارات التفكير الناقد في الرياضيات: خطوة في طريق تنمية مهارات الطفل في العصر الرقمي

د. على الخطيب
د. على الخطيب

يظهر أثر التفكير الناقد بوضوح عندما يحصل الطفل على فرصة للتعامل مع المعرفة بطريقته الخاصة، لا بالطريقة التي تُقدَّم إليه جاهزة. وقد اتضحت قيمة هذا المبدأ من خلال موقف بسيط حدث مع ابنتي سجى، وهي في الصف الثالث الابتدائي، عندما تعاملت مع جدول العدد 9 بطريقة مختلفة تمامًا عن الطريقة التقليدية. فقد بدأت من آخر الجدول بدلًا من أوله، وكتبت أمام العملية (9×10) الرقم 0، ثم أمام (9×9) الرقم 1، ثم 2 أمام (9×8)، واستمرت بهذا الترتيب حتى وصلت إلى العملية (9×1) ووضعت أمامها الرقم 9. ومع أنني ظننت في البداية أنها وصلت إلى هذا الأسلوب من تلقاء نفسها، فقد أوضحت لي لاحقًا أن مدرّستها هي التي عرّفتهم بهذه الطريقة، وهي طريقة يعتمد عليها كثير من معلمي الرياضيات لتبسيط فهم جدول 9 لطلاب الصف الثالث الابتدائي، لأنها تكشف البناء الداخلي للعمليات بشكل بصري بسيط. ومع هذا التنظيم العكسي ظهرت أمامها صورة واضحة للبناء الداخلي للجدول؛ إذ لاحظت بسهولة أن خانة العشرات ترتفع تدريجيًا من صفر إلى تسعة، بينما تنخفض في الوقت نفسه خانة الآحاد من تسعة إلى صفر. وبمجرد أن ربطت بين هذا الارتفاع والانخفاض، أدركت أن الجدول ليس مجموعة نتائج تُحفظ، بل علاقة مترابطة يمكن تتبعها وفهمها. وهنا اتضح أن الفهم العميق لا يأتي من الحفظ، بل من الملاحظة والتجريب، وهما الخطوتان الأساسيتان في بداية تكوّن التفكير الناقد لدى الأطفال.
ويقودني هذا المشهد إلى فكرة جوهرية مفادها أن الطفل ينتقل من مرحلة التلقي إلى مرحلة التفكير عندما نمنحه مساحة لإعادة بناء المعرفة بنفسه. فالقدرة على شرح الطريقة أهم من الوصول إلى الإجابة الصحيحة، لأن الشرح يكشف عن حركة التفكير داخل عقل الطفل، ويوضّح كيف ينتقل من خطوة إلى أخرى. وعندما يصبح الشرح جزءًا من الحصة، يتحول الطفل إلى مشارك في إنتاج المعرفة بدلًا من أن يظل متلقيًا لها، وهذا التحول يعيد تشكيل دور المدرسة في بناء عقل قادر على التفكير لا على التلقين.
ويزداد هذا المعنى وضوحًا عندما ندرك أن التعلم البصري كان أساس الفهم في هذه التجربة. فقد رأت سُجى العلاقات لأنها ظهرت أمامها بصورة مرئية، وهذا ما يؤكد أن الأعداد لا تكشف معناها عبر السمع وحده، بل تحتاج إلى عرض بصري يساعد الطفل على رؤية الترابط بين الأرقام. وهذه الفكرة تتسق تمامًا مع واقع التعليم الرقمي اليوم الذي يعتمد على الرسوم المصوّرة والحركة والتمثيل البصري. فالطفل الذي يتدرب على رؤية البناء الداخلي لجدول بسيط سوف يكون قادرًا لاحقًا على قراءة الرسوم البيانية والمخططات الرقمية التي يعتمد عليها التعلم الحديث في فهم البيانات.
ومن هنا يصبح الرابط بين هذا الموقف البسيط وبين مهارات المستقبل الرقمي رابطًا طبيعيًا. فالذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات والخوارزميات تعتمد جميعها على قدرة العقل على التقاط العلاقات العامة بين المعطيات. وما فعلته سُجى كان تعبيرًا مبكرًا عن هذه القدرة؛ إذ لم تنظر إلى جدول الضرب بوصفه نتائج مفصولة، بل بوصفه ترتيبًا منظمًا يمكن اكتشاف القاعدة التي تحكمه. وهذه القدرة على إدراك البناء الداخلي للأرقام هي الأساس الذي تقوم عليه مهارات التفكير الرقمي. ولذلك فإن لحظة بسيطة على ورقة التمرين يمكن أن تكون مدخلًا مبكرًا لفهم المتطلبات الأساسية للعالم الرقمي.
من هذا المنطلق، يصبح من المهم تحويل هذا النوع من اللحظات الفردية إلى ممارسات تربوية داخل الفصول. ويمكن تحقيق ذلك عبر خطوات بسيطة لكنها فعّالة، تبدأ بتشجيع الطلاب على إعادة بناء جداول الأعداد بأنفسهم. فيستطيع المعلم - حتى مع كثافة الفصل - توزيع أوراق فارغة على مجموعات صغيرة من الطلاب ليعيدوا بناء الجدول عبر اكتشاف العلاقات بأنفسهم، ثم عرض ما توصلوا إليه أمام زملائهم. هذه الطريقة تجعل الرياضيات مساحة للفهم لا للحفظ.
ويتعمق هذا التحول عندما يُدمج التعلم البصري داخل الحصة، عبر استخدام ورق ملون لتمييز العشرات بلون والآحاد بلون آخر، أو رسم الجداول بخطوط واضحة ومقسّمة على السبورة. يمكن أيضًا عمل بطاقات بسيطة يجمعها الطلاب على الطاولة ليعيدوا ترتيب الأرقام بما يكشف لهم البناء الداخلي للعلاقة. وهذه الأدوات، رغم بساطتها وتكلفتها المحدودة، تجعل حركة الأعداد أكثر وضوحًا وتساعد الطفل على إدراك الفكرة قبل حفظها.
وتكتمل الصورة عندما يبدأ المعلم في طرح أسئلة تحفّز التفكير الناقد، مثل: "كيف توصّلت؟"، "لماذا تغيّر الرقم هنا؟"، "ما الطريقة الأخرى الممكنة؟". فهذه الأسئلة تكشف طريقة التفكير وتشجّع الطفل على تحليل خطواته بدلًا من الاكتفاء بالوصول إلى نتيجة. ويمكن تطبيق هذه الأسئلة خلال حل التمارين أو عند مقارنة إجابات الطلاب ببعضها.
ويساعد هذا الأسلوب على استخدام تطبيقات رقمية بسيطة داخل الفصل، دون الحاجة إلى أجهزة كثيرة. فهاتف واحد مع المعلّم يكفي لعرض تطبيق يُظهر للطلاب كيف يتغيّر الناتج عندما يتغيّر أحد الأرقام. وعندما يرى الطلاب هذا التغيّر أمامهم بشكل مباشر، يصبح فهمهم للعلاقة بين الأعداد أسهل، ويقتربون خطوة من طريقة التفكير الرقمي التي سوف يحتاجونها في المستقبل.
ومع استخدام التطبيقات الرقمية التي تساعد الطفل على رؤية تغيّر النتائج أمامه، يصبح من الطبيعي الانتقال إلى خطوة أعمق تتعلق بتكوين القدرة على متابعة الترتيب العام للأعداد. فإدراك هذا التسلسل يُعد حجر الأساس لكل أشكال التفكير المنظم الذي تقوم عليه الخوارزميات. ويمكن تدريب الأطفال على هذا النوع من التفكير بأنشطة بسيطة جدًا، مثل رسم سلسلة أشكال متتابعة - دائرة، دائرة، مربع - ثم سؤالهم عمّا يتكرر، أو كتابة سلسلة أعداد مثل: 5، 10، 15، 20 ليكتشفوا القاعدة التي تربط بينها. وقد تبدو هذه الأنشطة بسيطة، لكنها تُنشئ عقلًا يلتقط العلاقات بسرعة، وهو ما تحتاجه البرمجة وتقنيات المستقبل.
ولضمان استمرارية هذه الممارسات داخل المدرسة، يحتاج المعلم إلى أدوات جاهزة تساعده. لذلك يمكن لإدارة المدرسة إعداد كتيب صغير يحتوي على نماذج لأنشطة العلاقات العددية وأسئلة التفكير الناقد وطريقة استخدام البطاقات الملونة. ويمكن مشاركة هذا الكتيب ورقيًا أو عبر مجموعات واتساب بين المعلمين، مما يجعل تطبيق هذه الأنشطة أسهل وأكثر انتظامًا.
وتصل العملية إلى أهم خطواتها عندما يحصل الطلاب في نهاية كل حصة على دقيقة واحدة لشرح طرق تفكيرهم. فالطفل الذي يشرح طريقته يكتسب ثقة، ويعيد ترتيب أفكاره، ويكتشف أن الرياضيات ليست حفظًا للنتيجة بل فهمًا للترابط الذي قاده إليها. وهذا يشجع زملاءه على التفكير بصوت مسموع، ويخلق داخل الفصل ثقافة مبنية على الفهم والتحليل.
وعندما تتكامل كل هذه التوصيات، يتحول درس الرياضيات من مساحة للحفظ إلى مساحة للتفكير، ويتحوّل الطفل من متلقٍّ إلى باحث صغير، ويتحوّل جدول الضرب من تمرين آلي إلى بوابة لفهم التفكير الناقد وتعلم مهارات المستقبل الرقمي. فالطفل الذي يرى العلاقة اليوم، سوف يرى الخوارزمية غدًا. والطفل الذي يتعلم إعادة بناء الفكرة سوف يكون قادرًا لاحقًا على إعادة بناء معرفته في عالم التكنولوجيا بثقة ووضوح.
وبذلك لا تصبح الطريقة التي تعلّمتها سُجى من معلمتها مجرد وسيلة لطيفة لتبسيط جدول الضرب، بل رسالة تربوية واضحة تقول إن تنمية التفكير لا تحتاج موارد ضخمة، بل تحتاج فقط إلى أن نمنح الطفل فرصة ليرى، ويجرّب، ويعيد ترتيب أفكاره، ويستخدم عقله كما ينبغي له أن يستخدمه.

د. علي الخطيب مهارات التفكير الناقد في الرياضيات: خطوة في طريق تنمية مهارات الطفل في العصر الرقمي الجارديان المصرية