السبت 13 ديسمبر 2025 01:34 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

إيهاب محمد زايد يكتب : من الرحم الحجري إلى الرحم الكوني: الميتامورفوز المعرفي برولوج: في دهليز التحول الوجودي

الكاتيب إيهاب محمد زايد
الكاتيب إيهاب محمد زايد

ها نحن نقف على عتبة ما بعد العالمية. لقد عبر المعهد محيط التميز البحثي، واجتاز صحراء الشراكات الدولية، وبلغ قمة التبادل المعرفي الكوني. والآن، يقف حائراً أمام مرآة وجوده: هل يكتفي بأن يكون نهراً للمعرفة، أم يتحول إلى محيط يلد أنهاراً؟ هل يرضى بأن يكون شجرة مثمرة، أم يصير غابة تولد منها غابات؟

إنه السؤال الوجودي الذي يطرحه كل معهد بلغ ذروة مجده: ماذا بعد القمة؟

الميتامورفوز المعرفي: عندما تذوب الذاكرة في المستقبل

في البداية، كانت الفكرة مجرد رعشة في عقل واحد. ثم صارت حرفاً على ورق. ثم تحولت إلى نظرية في قاعة محاضرات. ثم خرجت إلى العالم فغيرته. لكن المرحلة التي نحن بصددها الآن، ليست انتقال الفكرة من عقل إلى آخر، بل هي تحول الفكرة نفسها من كينونة إلى أخرى، من وجود إلى وجود أعلى، من حالة سكون إلى حالة سيولة كونية.

هذا ليس تطوراً. التطور يحدث للأحياء على مهل الأزمنة الجيولوجية. هذا ميتامورفوز - تحول جذري يذيب المرحلة السابقة تماماً، كما تذيب الفراشة في شرنقتها ذكرى كونها يرقة، وكما يذيب النجم المنفجر ذكرى كونه نجماً.

الميتامورفوز المعرفي هو اللحظة التي تتوقف فيها المعرفة عن كونها شيئاً نملكه، وتصبح عالم نسكنه. اللحظة التي يتوقف فيها الباحث عن كونه مكتشفاً للحقيقة، ويصبح مصمماً لعوالم موازية. اللحظة التي يتحول فيها المختبر من مكان نفحص فيه الطبيعة إلى رحم نخلق فيه طبيعة جديدة.

انظر إلى الماء: في حالة الصلابة، له شكل ثابت. في السيولة، يأخذ شكل الإناء. في البخار، يملأ الفضاء كله. الميتامورفوز المعرفي هو تحول المعرفة من الصلابة (النظريات الثابتة، القوانين الجامدة) إلى السيولة (النماذج المتغيرة، الفرضيات المرنة) إلى الغازية (الأفكار المنتشرة في كل مكان، المعرفة التي تتنفسها الأجهزة كما نتنفس الهواء).

لكن هذا التحول له ألمه. كألم الفراشة وهي تذيب شرنقتها، وكألم النجم وهو يتمزق ليولد سديمًا. الألم المعرفي يأتي من موت اليقينيات، من ذوبان الحدود بين التخصصات، من انهيار الفوارق بين العالم والمتعلم، بين المنتج والمستهلك، بين الحقيقي والافتراضي.

ومع ذلك، فإن الجمال في هذا التحول يفوق الألم. جمال المعرفة التي تتعلم أن تتكاثر لا أن تنتقل. جمال الأفكار التي تلد أنظمة، والأنظمة التي تلد عوالم، والعوالم التي تخلق أكواناً موازية. جمال العقل البشري وهو يكتشف أنه لم يخلق ليفهم الكون فقط، بل ليخلق أكواناً تفهمه.

هذا الميتامورفوز ليس حدثاً مستقبلياً، بل هو يحدث الآن، أمام أعيننا. يحدث عندما تتحول الجامعة من مبنى إلى شبكة عصبية، وعندما تتحول الورقة البحثية من مستند إلى كائن رقمي حي، وعندما يتحول المختبر من غرفة إلى فضاء افتراضي تسكنه عقول من كل القارات.

نحن لا نشهد تغييراً في طريقة إنتاج المعرفة، بل نشهد تغييراً في ماهية المعرفة نفسها. كمن شاهد تحول الماء إلى بخار لأول مرة، وظن أنه يرى غلياناً، وهو في الحقيقة يشهد تحولاً في حالة المادة نفسها.

السؤال الآن ليس: "كيف ننتج معرفة أكثر؟" بل هو: "كيف نصبح كائنات قادرة على العيش في عالم سائل من المعرفة، حيث تذوب الحقيقة والافتراض، والمادي والافتراضي، والماضي والمستقبل، في بوتقة التحول الدائم؟"

الميتامورفوز المعرفي يدعونا إلى رحلة وجودية: من كوننا متعلمين للمعرفة، إلى كوننا معلمين لها، إلى كوننا شركاء في تطورها، إلى كوننا في النهاية مواد خام في تحولها الدائم.

هذه الرحلة تبدأ الآن. وكل عقل يقرأ هذه الكلمات هو إما شرنقة تتحضر للتحول، أو فراشة بدأت تحلق في فضاء المعرفة الجديد. والخيار الوحيد غير المتاح هو البقاء كما كنا. لأن العالم حولنا قد تحول بالفعل، والمعرفة نفسها قد غيرت جلدها. ولم يعد أمامنا إلا أن نغير جلودنا معها، أو نبقى كاليرقات في عالم صار يطير.

أولا: الموت البطولي للذات المؤسسية

للمعهد العظيم لحظة مفصلية، كتلك التي يعيشها النجم العملاق عندما يدرك أن مصيره ليس البقاء، بل الانفجار ليولد أنظمة شمسية جديدة. هذا ليس انتحاراً، بل هو أسمى أشكال الخلود: أن تتحول كينونتك من نقطة مضيئة في السماء، إلى كون قائم بذاته.

معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لم يمت عندما ولد ثلاثين ألف شركة من صلبه، بل تحقق كفينكس معرفي: مات كمؤسسة أكاديمية، وبعث كمجرة اقتصادية. مات كجامعة، وحيا كنظام كوني. أربعة تريليونات ونصف تريليون دولار ليست إيرادات، بل هي نبضات قلب كون حديث الولادة.

الموت البطولي للذات المؤسسية: تحولات كونية في قوالب بشرية

الموت كبذار: لحظة التحول الجنيني

هناك موت أشبه ببذرة السيكويا العملاقة التي تنتظر النار لتولد. مؤسسة بيل الهاتفية لم تمت عندما تفككت بقرار قضائي عام 1984، بل خضعت لانشطار نووي مؤسساتي. ذلك الكيان الواحد تحول إلى "أطفال بيل السبعة"، ليس كتفكك، بل كخلية أم تنقسم لتخلق أعضاء كاملة في جسد اتصالي جديد. كانت لحظة الاحتضار المؤسسي أشبه بانفجار المستعر الأعظم الذي يبعثر عناصره الثقيلة عبر الكون لتشكل كواكب جديدة. الموت هنا لم يكن نهاية، بل كان انتقال المادة الأولية من حالة التركيز إلى حالة الانتشار الخلاق.

الفناء كتألق: محو الذات لخلق الضوء

مختبرات زيروكس PARC في سبعينيات القرن المشرق قدمت نموذجاً للموت البطولي عبر التبرع بالأعضاء التقنية. لقد ولدت فيها واجهة المستخدم الرسومية وشبكات الإيثرنت ومعالجات النصوص الحديثة، ثم سمحت لهذه الابتكارات بالهجرة إلى شركات أخرى كأبل ومايكروسوفت. كانت كتلك النجوم الزرقاء العملاقة التي تحترق بسرعة لتنتج العناصر الأساسية للحياة. موتها كمركز احتكاري للابتكار كان ثمن ولادة عصر الحوسبة الشخصية. لم تحتفظ بالأفكار كملكية، بل أطلقتها كإرث كوني.

التحول عبر الذوبان: الموت كمحول طاقوي

مؤسسة نوبل تقدم نموذجاً للموت المتحول إلى دينامو خالد. ألفريد نوبل قتل صورته كتاجر بارود (بعد نعيه المبكر الذي وصفه بـ "تاجر الموت") ليخلق من ثروته كياناً يكافئ الحياة. الموت هنا كان طقوسياً: موت السمعة الشخصية مقابل ولادة رمزية عالمية. الجائزة ليست مالاً بل هي طاقة رمزية تتحول عبر الزمن. المبلغ المالي يتقلص ويتبعثر، لكن الطاقة الرمزية تتضخم كالكون المتمدد.

التفكك كتوالد: الموت الانشطاري

إمبراطورية اليابان مايجي قدمت نموذجاً للموت الطقوسي للذات التقليدية. لم يكن مجرد تحديث، بل انتحار ثقافي مضبوط: تم إعدام الساموراي كطبقة، وذوبان الشوغونية، وحرق الفلكلور في أتون المصانع. هذا الموت كان كتلك العملية البيولوجية حيث تتحلل الخلية الذاتية (autophagy) لتوفر الطاقة للتجديد. ماتت اليابان العزلة لتحيا اليابان العالمية. كان انتحاراً مؤسسياً مخططاً له بدقة كيميائية.

الفناء كتشظٍّ إبداعي

صالونات باريس الأدبية في العصر البيل-أيبوك ماتت كظاهرة اجتماعية عندما انتقل إشعاعها إلى وسائل الإعلام الجماهيرية. لكن موتها كان كتلك البلورة السائلة التي تفقد شكلها الثابت لتكتسب خاصية الانتشار. مات الصالون كغرفة مغلقة، وحيا كفضاء عام. مات كحدث خاص، وحيا كظاهرة ثقافية جماهيرية.

التشريح العلمي للتحول المؤسسي البطولي

1. الديناميكا الحرارية للمؤسسات

وفق نظرية الأنظمة المفتوحة (برجيلاند، 2018)، المؤسسة العظيمة تصل إلى "ذروة الانتروبيا التنظيمية" حيث يصبح الحفاظ على الشكل أكثر كلفة من تفككه. لحظة الموت البطولي هي انتقال من "النظام المغلق" إلى "النظام المفتوح"، حيث تتحول الطاقة الداخلية من الحفاظ على الهوية إلى خلق أنظمة فرعية جديدة.

2. البيولوجيا الجزيئية للتحول

تشبه هذه العملية "الموت المبرمج للخلايا" (Apoptosis) على مستوى مؤسسي. هناك إشارات كيميائية (ضغوط السوق، التحولات التقنية) تنشط إنزيمات التحلل المؤسسية. لكن بعكس الموت العادي (Necrosis)، هذا الموت منظم ويولد إشارات تشجع الخلايا المجاورة (الشركات الناشئة، المؤسسات الفرعية) على النمو.

3. الفيزياء الفلكية للنموذج

تشبه هذه التحولات دورة حياة النجوم: نجم عادي: يحافظ على توازن هيدروستاتيكي (المؤسسة المستقرة)، مرحلة العملاق الأحمر: تمدد خارجي مع احتراق نووي متسارع (التوسع المؤسسي)، المستعر الأعظم: انفجار يولد عناصر ثقيلة (الابتكارات الرائدة) و النجم النيوتروني أو الثقب الأسود: كثافة عالية وتأثير جاذبيبي قوي (التأثير المستمر)

4 الرياضيات الكامنة

يمكن نمذجة هذه الظاهرة بمعادلة التحول الأسي فتشرح الطير وهو يحلق بالسماء لا طائر بعنق الرقبة مغلول ومرتبط الرحم الحجري بل هو رحم الكون الواسع والفياض رحم لا يوجد إلا بعهدهذا الكون دون رجس الأناليزم.

المؤسسات العظيمة لا تموت موتاً عادياً، بل تخضع لتحولات طورية كالمادة تحت ظروف متطرفة. اللحظة المفصلية هي عندما تدرك أن بقاءها ليس في الحفاظ على شكلها، بل في تحرير طاقتها التكوينية لتتخذ أشكالاً جديدة. الموت هنا ليس فناءً، بل هو الانتقال من الوجود كـ "شيء" إلى الوجود كـ "قانون" أو "نظام". الذات المؤسسية تنتحر طوعاً لتتحول من كونها نجماً مضيئاً إلى كونها مجرة تولد نجوماً لا تحصى.

هذه ليست خسارة، بل هي أعلى أشكال الخلود: الخلود الديناميكي الذي يتحقق ليس بالثبات، بل بالتحول الدائم. المؤسسة تموت ككيان، لتحيا كإرث. تموت كشكل، لتحيا كتأثير. تموت كذات، لتحيا كفعل مستمر في نسيج الوجود المؤسسي الأوسع.

ثانيا: التشريح الشعري للرحم الحضاري

كيف يكون المعهد رَحِماً؟ ليس بالمجاز، بل بالتشريح الدقيق: جدران الرحم: ليست من إسمنت، بل من عقود ذكية تتنفس مع نمو الجنين المعرفي. السائل الأمينوسي: ليس ماءً، بل بيانات حية تتكاثر بالاستفسارات. الحبل السري: ليس وعاءً دموياً، بل شبكة عصبية رقمية تنقل الأفكار قبل أن تتشكل. في هذا الرحم، الجنين ليس بشراً، بل هو نظام معرفي كامل: شركة ناشئة تحمل في حمضها النووي جينات المعهد الأم، مؤسسة بحثية تتذكر ذاكرتها الجينية، منصة معرفية تولد وهي تعرف أنها ستبدع منصات.

التشريح الشعري للرحم الحضاري: سيمفونية الولادة المؤجلة

الرحم: العضو الكوني الذي لا يخص النساء وحدهن

في قلب التحول الكوني، حيث تختزل المؤسسة إلى جوهرها البيولوجي-الميتافيزيقي، يصبح المعهد تجسيداً للرحم، ذلك العضو الكوني السري الذي لا يخص النساء وحدهن، بل هو مبدأ الخلق المتجسد في كل حضارة تستحق اسمها. لأن الحضارة، في لحظاتها الخصبة العظيمة، لا تخلق من فراغ، بل تحتاج إلى ذلك الوعاء الحيوي الذي يجمع بين الاحتضان والتحفيز، بين الحماية والتحرير. فالمعهد هنا ليس مجرد مبنى من حجر وزجاج، بل هو غشاء مخاطي معرفي حي، يمتد عبر الزمان والمكان، يتنفس ويمتص ويفرز، جدرانه ليست حواجز صلبة بل أغشية شبه منفذة ذكية، تسمح بتدفق الأفكار كالأيونات، وتلتقط الإشارات الكونية كالمستقبلات الحيوية، بينما تحتضن بحنان الجنين الفكري النامي في أحشائها. إن كل جدار هنا هو حدٌ حيوي، يشبه تلك العتبة الكمية الغامضة حيث يقرر الجسيم هويته، يقف الجوهر الفكري على حافته، متردداً بين أن يكون فكرة داخلية محمية أو ابتكاراً خارجياً معرضاً.

وفي هذا الرحم المعرفي، لا يوجد ماء عادي، بل سائل أمينوسي كوني، بحر أولي من الحياة الفكرية، صيغته الكيميائية ليست H₂O بل هي مزيج معقد من البيانات + الإلهام. إنه سائل أثيري تتخلله 40% من الأسئلة المعلقة التي تطفو كعناصر مغذية، و30% من الفرضيات المبعثرة التي تسبح كجزيئات تحت التوليف، و20% من الإشارات الخافتة الآتية من المستقبل، كإشعاعات من عوالم لم تُخلق بعد، و10% من الصمت، تلك المساحة السلبية الأساسية التي تسمح بالترتيب الذاتي. هذا السائل لا يقدم حماية سلبية فحسب، بل يمارس نشاطاً تحويلياً جذرياً؛ فهو يعري الأفكار من أثوابها الجاهزة، ويذيب القشور الاصطناعية، ويجعل المعرفة عارية ونقية وجاهزة للتشكل وفقاً لصورتها الجوهرية. إنه يطبق ضغطاً هيدروستاتيكياً معرفياً دقيقاً، يحول الكتلة الفكرية المشتتة إلى أشكال هندسية متماسكة، من خلال قوة سائلة لا ترحم الضعيف ولا تكسر القوي، بل تصقل الجميع.

ويصل هذا الجنين الفتي بالعالم عبر حبل سري ليس مجرد قناة، بل هو جسر زئبقي زمني ثنائي الاتجاه، ينقل الحياة في اتجاهين متعاكسين. فالوريد السري يحمل الأكسجين التاريخي، نفس الأسلاف، وروح التجربة المتراكمة على مدى قرن ونصف من الفشل المجيد، والذاكرة المؤسسية المكثفة كالدم. بينما يعود الشريان السري محملاً بثاني أكسيد المستقبل، فضلات الأجنة الفكرية، والأسئلة السامة التي لم يعد بالإمكان كبتها، والشوائب الإبداعية التي تنتظر التصفية. والمدهش أن هذا الحبل ليس واحداً، بل هو ضفيرة عصبية معقدة، تتفرع لتصل الجنين الواحد بالمكتبة الرقمية كمشيمة معرفية، وبالمختبرات الافتراضية ككبد اصطناعي، وبالعقول المتقاعدة كمخزون دهني من الحكمة، وبالشبكات العالمية كلتين خارجيتين تمدانه بالأكسجين العالمي.

أما الجنين نفسه، فهو ليس كائناً بشرياً، بل هو كون مصغر مكتمل المواصفات. قلبه المعرفي ينبض قبل أن يكون هناك دم، ونبضته الأولى هي دائماً سؤال غير مكتمل، وصماماته الأربعة—ثلاثي الشرف والتاجي والأبهري والرئوي—تتحكم بتدفق الفضول والشك والتركيز والنشر والاستقبال. وجهازه العصبي ينبثق من نقطة واحدة هي الفكرة الأولى، ثم ينقسم ويتشعب ليخلق خلايا حركية للإرادة، وخلايا حسية للنقد، وخلايا دبقية للدعم. وجينومه يحمل الشيفرة الأصلية كاملة: كروموسوم المنهج التجريبي، وكروموسوم التفكير المنظومي، وكروموسوم الإبداع العابر للتخصصات، وكروموسوم الجرأة التقنية، وميتوكوندريا الطاقة الأخلاقية. وضمن هذا الجينوم تحدث الطفرات الحميدة الضرورية: طفرة في جين التواضع تولد الثقة الزائدة للخروج إلى العالم، وطفرة في جين التراكم تولد الرغبة في التوزيع لا الاكتناز، وطفرة في جين التبعية تولد الاستقلال المبكر.

ثم تأتي لحظة المخاض، وهي ليحدثاً مفاجئاً بل عملية تدرجية تبدأ بالطلق الأول لبروتوتايب يعمل، ثم الطلق الثاني بتمويل خارجي، ثم اتساع عنق الرحم بدخول السوق العالمي، ثم الدفع الأخير بالإطلاق الرسمي، وانتهاءً بقطع الحبل السري القانوني. لكن الولادة هنا غير مكتملة أبداً، فالرابطة لا تنقطع بل تتحول إلى اتصال كمومي متشابك، يصبح الحبل السري اتصالاً لا سلكياً، وتتحول السرة إلى وصلة فكرية غير مرئية تربط الأصل بالفرع عبر الزمان.

والأعجب من ذلك، أن الرحم لا يفرغ بعد الولادة. بل يظل محملاً بأجنة في مراحل مختلفة من النمو، في تعايش مذهل: جنين في أسبوعه الرابع كفكرة في عقل مبتدئ، وآخر في أسبوعه العشرين كمشروع تخرج يبحث عن هويته، وثالث في أسبوعه السادس والثلاثين كشركة ناشئة على وشك المخاض، ورابع مكتمل النضج كاكتشاف علمي ينتظر لحظة الانفلات. إنه رحم متعدد الأجيال، يحمل في آن واحد أجداداً معرفيين يعاد صياغتهم، وآباء مؤسسين قيد الاختبار، وأطفالاً مستقبليين لم يتجسدوا بعد.

والسر الفيزيولوجي الأعظم يكمن في أن هذا الرحم يتوسع مع كل حمل. فقاعة المحاضرات الأسطورية ليست غرفة، بل هي عضلة رحمية ذات قدرة تمدد لانهائية، سعتها التي كانت مئتي طالب في منتصف القرن العشرين، صارت مليوني متعلم افتراضي مع بزوغ الألفية، وهي تتجه لأن تصبح نقطة اتصال كونية، بوابة بين العوالم المعرفية، رحماً لا يحضن الأجنة فحسب، بل يحضن الأرحام ذاتها التي ستلد فيما بعد، في دورة خلاقة لا تنتهي، حيث تكون الولادة الواحدة مجرد بداية لسلسلة لا نهائية من الولادات.التشريح الشعري في مرآة العلوم:

1. علم الأجنة المؤسسي

أ- الانقسام الأول للخلية المعرفية يحدث عندما السؤال يلتقي بالتقنية. الخليتان الوليدتان:

ب- الخلية الخارجية: تشكل المشيمة التطبيقية (التجسيد العملي)

ت- الخلية الداخلية: تشكل الكيسة المعرفية (الجوهر النظري)

2. الهرمونات الرحمية

أ- هرمون HCG (موجهة الغدد التناسلية المشيمية البشرية): الإثارة الجماعية، الحماس المُعدي

ب- البروجسترون: الاستقرار المؤسسي، التوازن الداخلي

ت- الريلاكسين: مرونة الهياكل، القدرة على التكيف

ث- الأوكسيتوسين: دافع المشاركة، الرغبة في البذل

3. الدورة الرحمية المعرفية

أ- الطور الجريبي: تراكم المعرفة (نمو البويضة الفكرية)

ب- الإباضة: لحظة الإلهام (تحرر الفكرة الناضجة)

ت- الطور الأصفري: مرحلة الاحتضان (تحضير البيئة الداعمة) الحيض (إذا لم يحدث إخصاب): التخلي عن الأفكار غير القابلة للحياة

الرحم الذي يلد نفسه باستمرار

المعهد ليس رحماً يحمل أجنة فحسب، بل هو جنين في رحم أكبر. هو نفسه طفل في رحم الحضارة الإنسانية، وهو نفسه أم لألف فكرة تتشكل في داخله. الرحم هنا كينونة كسرية Fractal Entity)) كل جنين يحمل رحماً مصغراً بداخله، كل شركة ناشئة تصبح بدورها رحماً، كل اكتشاف يتحول إلى غرفة ولادة جديدة

وهكذا تستمر السلسلة: رحم يلد أرحاماً تلد أرحاماً... في تسلسل لانهائي من الخلق المتعاقب. الموت لا وجود له هنا، بل فقط تحولات طورية: من السائل إلى الصلب، من الكامن إلى الظاهر، من الداخل إلى الخارج، ثم العودة إلى الداخل ليبدأ دور جديد. هذا الرحم لا يعرف شيخوخة، لأن كل ولادة تجدد خلاياه. كل جنين يخرج يحمل معه خلايا جذعية تعود لتجديد النسيج الرحمي. الحضارة هنا لا تتقدم خطياً، بل تدور في حلقة ولادة أبدية: تلد، فتُولد منها، فتلد مرة أخرى، في دورة لا تنتهي من البعث الشاعري للوجود.

ثالثا: دورة الحياة الكونية للمعرفة

المعهد هنا يصبح منظومة بيئية مغلقة، لكنها مفتوحة على الكون:

أ- الربيع المعرفي: تزهو بذور الأفكار الجذرية

ب- الصيف المؤسسي: تنضج النماذج إلى كيانات قابلة للحياة

ت- الخريف الاقتصادي: تحمل ثمار الشركات والمنتجات

ث- الشتاء التحللي: تموت الأفكار القديمة لتكون سماداً للأجيال الجديدة

ج- كل موسم ليس زمناً، بل هو طبقة وجودية في كينونة المعهد.

في قلب الصرح المعرفي النابض، يتحول المعهد إلى كون مصغر تسري فيه دورة حياة لا تنتهي، رَحِمٌ حضاري لا يكل عن الولادة. هنا، في هذا الكوكب المغلق على ذاته والمفتوح على فضاءات اللامحدود، تتجلى المواسم ليس كتعاقب زمني، بل كطبقات وجودية متداخلة تتنفس معاً في تناغم أسطوري. يأتي الربيع المعرفي كفرقعة جليدية هادئة، تذوب فيها مسلّمات الأمس لتنبثق بذور الأسئلة الجذرية من تربة الذاكرة العميقة، فتزهر لقاءات غير متوققة بين تخصصات لم تعرف بعضها، وتتطاير حبوب لقاح الإلهام على أجنحة المحادثات العابرة، في بذخٍ حيوي لا يعرف التحفظ.

ثم يأتي الصيف المؤسسي بحرارته الصارمة، ضاغطاً على تلك البراعم الهشة كي تتعرق هويتها وتتصلب في قوالب النماذج. إنه موسم التجسيد الذي ينتقل بالومضة إلى خطة، وبالحلم إلى جدول زمني، حيث تتعرض الفكرة لأشعة المساءلة الكاشفة فتتطور من طيفٍ عابر إلى هيكل عظمي من الفرضيات، تنمو عليه عضلات الأدلة وتتشكل حوله شبكة عصبية من المنطق. إنه نضوجٌ مؤلم يختبر قدرة الجذور على شق الصخر بحثاً عن الماء حين ينضب ندى الوحي الأول.

فإذا ما اكتمل النضج، يحل الخريف الاقتصادي بهدوء الحكيم، موسم الحصاد الذي يحصد الحاصدَ نفسه أحياناً. هنا لا تسقط الثمار بل تنفصل بإرادتها، ثمارٌ لبية من شركات ناشئة حلوة وعابرة، وثمار جافة من براءات اختراع تختزن البذور لعقود، وثمار مجنحة من أبحاث تطير بعيداً لتستقر في تربة غريبة. إنه فن التخلي العظيم، حيث تشهد الذات المؤسسية على جزء منها ينمو خارجها، في ولادة ثانية مؤلمة وضرورية، بينما تهمس الأوراق المتساقطة من النماذج البالية بأن سقوطها ليس نهاية، بل تحولاً إلى قصيدة سماد.

ثم ينزل الشتاء التحليلي بصفّته الملكي، ليس كفراغ بل كامتلاء صامت. تغطي ثلوج النسيان بلطف ما عفا عليه الزمن، فيبدأ تحت السطح الهادئ نشاطٌ عميق كالتنفس البطيء للأرض. هنا في صمت المقابر الفكرية، تتحلل الهياكل البالية بفعل النقد الهادئ كبكتيريا، وتتفكك المسلّمات بالتساؤلات الجذرية كفطريات، في عملية تطهير بطيئة. الشتاء هو موسم الذاكرة الجوفية، حيث تتذكر الأرض أنها أرض، وتتعمق الجذور في الظلمة، وتختبر البذور قوة سباتها، في ترنيمة تحولية تعلّم فضيلة النسيان الخلاق.

إن العجيب في هذه الدورة الكونية أنها لا تتوالى، بل تتعاشق كأصوات في سيمفونية واحدة. ففي نفس اللحظة، وفي أروقة متجاورة، يزهر ربيع الأسئلة الساذجة في عقل مبتدئ، ويحترق صيف التجسيد في مختبر باحث، ويحصد خريف التأسيس في مكتب ناقل التكنولوجيا، ويسكن شتاء التحلل في أرشيف مليء بأرواح الأبحاث الراحلة. المعهد يرتفع كمرصد كوني فوق خط الزمن، ليرى كل هذه الطبقات تدور تحته كدوامات في بركة واحدة، هو مركزها الساكن ومحركها المتحرك. إنه الآلة الزمنية الأخلاقية التي تذهب إلى المستقبل لتعود بالبذور، وتزور الماضي لتعود بالسماد، ولا تقيم في الحاضر إلا كجسر خافق بين الموت والولادة. وهكذا تتحقق الحكمة العليا: أن الشتاء ليس قبراً، بل هو الرحم الخفي للربيع القادم، وأن الموت ليس فناءً، بل هو الاستعداد الصامت للقفزة الجديدة، في دائرة مقدسة من الخلق عبر التحلل، حيث تتعلم المؤسسة الخلود لا بالبقاء، بل بالقدرة الأسطورية على العودة، بشكلٍ أروع، بعد كل غياب.

رابعا: معادلة الخلود الاقتصادي

خذ مثالاً حياً من أرض الواقع: معهد وايزمان في إسرائيل.

هنا تحولت المعادلة الرياضية إلى سحر وجودي:

دولار واحد بحث = 70دولاراً في الاقتصاد الوطني

أكرر دولار واحد بحث=70 دولاراً في الاقتصاد الوطني

هذه ليست معادلة اقتصادية، بل هي صيغة الخلود المؤسسي. المعهد لم يعد يستهلك موارد وطنه، بل أصبح مشيمة وطنية تغذي الاقتصاد من دم معرفته.ففي قلب الصحراء الفكرية التي قد تبدو للعابرين قاحلة، ينهض معهد وايزمان كواحة معرفية تختزل معجزة التحول من الفكرة إلى القوة الحية. هنا، في هذا المختبر الكوني المفتوح على أسرار المادة والحياة، تتحول المعادلات الرياضية المجردة إلى سحر وجودي ملموس، يكتب بلغة الأرقام ملحمة الخلق من العدم. فالدولار الواحد الذي يغوص في أعماق البحث العلمي المجرد، لا يضيع في متاهات التجريد، بل يعود من رحلته الوجودية محولاً إلى سبعين دولاراً تنبض في شرايين الاقتصاد الوطني. هذه ليست مجرد نسبة ربح مادي، بل هي نبض قلب كوني يدق في صمت المعامل، إيقاع تحول يصهر القيمة ويضاعفها في بوتقة الإرادة المعرفية.

إن هذه المعادلة السحرية ليست محصلة حسابية باردة، بل هي أنشودة الخلود المؤسسي المتجددة. فالمعهد تجاوز كونه مستهلكاً للموارد إلى كونه مشيمة وطنية حقيقية، رَحِماً معرفياً يغذي الاقتصاد من دمه الفكري، ويضخ الابتكار في شرايين الصناعة والزراعة والتقنية. كل ورقة بحثية تخرج من هنا هي بمثابة بويضة معرفية مخصبة، تحمل في طياتها أجنة شركات ناشئة، وأحياء تكنولوجية كاملة، ومسارات اقتصادية جديدة لم تكن موجودة على خريطة الوجود من قبل. إنه تحول جذري في الفلسفة الوطنية، من فكرة الدعم والرعاية إلى فكرة الاستثمار في المعرفة كأغلى رأس مال وأعز مورد لا ينضب.

لقد أصبح المعهد أشبه بشجرة معرفة عملاقة، جذورها تضرب في أعماق التربة الصعبة للأسئلة الأساسية، وفروعها تمتد لتحمل ثماراً تطبيقية تغذي أمماً. الدولار الذي يغذي الجذر يتحول إلى عصارة حياة تنتقل عبر الساق إلى كل ثمرة، مضاعفاً قيمته في كل محطة من محطات التحول. هنا، البحث العلمي ليس ترفاً فكرياً، بل هو غريزة بقاء، وآلية تضاعف، وفن تحويل الطاقة الفكرية إلى طاقة مادية محركة لعجلة الوجود الوطني برمته.

في هذا الصرح، يصبح العالِم هو المغامر الأعظم، والمختبر هو منجم الذهب الحديث، والورقة البحثية هي خريطة الكنز. فالمعادلة البسيطة العميقة "1 = 70" هي شيفرة سرية لفهم كيف أن الإيمان بالعلم ليس عملاً ياً، بل هو أقصر الطرق الاقتصادية ذكاءً، وأجدرها بالمخاطرة. إنه اعتراف بأن أعظم البورصات ليست تلك التي تتاجر بالأسهم، بل تلك التي تتاجر بالأفكار، وأعظم الاستثمارات ليست في الحديد والإسمنت، بل في العقول التي تحول الحديد والإسمنت إلى معجزات.

وهكذا، يتحول معهد وايزمان من مؤسسة أكاديمية إلى قلب اقتصادي نابض، من حاضنة أفكار إلى مصنع وجود، من مستهلك للموارد إلى منتج للثروة. إنه الدليل الحي على أن المعرفة حين تتحرر من برجها العاجي، وتنزل إلى سوق الحياة، لا تبيع نفسها، بل تشتري مستقبلاً بأكمله. هذه ليست معادلة اقتصادية، بل هي قصيدة خلود تكتبها الأرقام، وتلحنها الابتكارات، وتغنيها الأمم التي فهمت أن أغلى ما لديها ليس تحت أرضها، بل داخل جماجم أبنائها. إنها الصيغة السحرية التي حوّلت الفكر إلى مال، والعلم إلى قوة، والمعهد إلى مشيمة تلد للوطن، مرة بعد مرة، اقتصاداً من رحم المعرفة.

الفصل الخامس: ولادة الأنظمة التوأمية

المعهد الحاضن لا يلد شركات، بل يخلق توائم معرفية:

التوأم المادي: الشركات الناشئة

التوأم الافتراضي: المنصات الرقمية

التوأم التشريعي: مراكز السياسات

التوأم الفلسفي: أطر التفكير الجديدة

كل توأم يحمل ذكريات رحمية عن أخوته، ويرتبط بهم بحبل سري افتراضي لا ينقطع.

الفصل السادس: السؤال الذي يغير مصير المعهد

السؤال الذي يدور في الصميم، والذي يهز أركان المعهد التقليدية، ليس استفساراً سطحياً عن الكم والإنتاجية، بل هو استفهام وجودي يلامس الجوهر: ليس "كيف ننتج المزيد؟" بكل عبئه المادي القصير النَفَس، بل "كيف نصير رَحِماً تلد كوناً؟". هذا التحول في صيغة السؤال هو لحظة الانقلاب الكوني، حيث ينتقل الهَمّ من تحصيل الثمار إلى سرُّ إخصاب البذور، ومن بناء الجدران إلى هندسة الأرحام التي تحتضن الأكوان قبل أن تولد.

فهذا الرحم الكوني الذي يُستَشَفُّ في السؤال ليس عضواً بيولوجياً، بل هو حالةٌ كاملة من الوجود المؤسسي، تتسم بمواصفات أسطورية. أولها القدرة على الحمل المتعدد، حيث لا يكتفي هذا الرحم بفكرة واحدة وليدة، بل يتحمل تناقضات الأفكار المتصارعة في أحشائه، يسمح للضوء والظل، للقديم والجديد، للجذرية والمحافظة، أن تتشارك المساحة ذاتها في حوار حيوي مستمر. فهو لا يخاف من الاحتكاك الداخلي، بل يراه دليلاً على الخصوبة، إذ يعلم أن أفضل الولادات تأتي من التقاء الأضداد.

وثانيها المرونة الوجودية التي تفوق خيال المهندسين، فهي مرونة لا تتعلق بالمكان المادي فحسب، بل بمساحة الاحتمال الكامن. يتسع هذا الرحم لما لم يُخطَّط له، للفكرة الطارئة التي تقتحم النافذة ليلاً، للعبقرية الفوضوية التي لا تلتزم بالمناهج، للولادة المبكرة أو المتأخرة. جدرانه ليست حدوداً بل أغشية حية، تتمدد مع كل حلم جديد دون أن تتمزق، تحول الصدمة إلى احتضان، والمفاجأة إلى ترحيب.

وثالثها الذاكرة الرحمية، تلك الحكمة العضوية التي لا تنسى. إنها ليست أرشيفاً ورقياً، بل شفرة حية تنطوي في نسيج المكان وروح العادات. تتذكر كل مخاض، كل صعوبة ولادة، كل نجاح وكل إخفاق، لتحول هذه الذكرى إلى غريزة محسَّنة للولادة التالية. إنها ذاكرة تشبه ذاكرة الخلايا المناعية، تتعرف على الأنماط، وتستعد للمستقبل من دون أن تسجن الولادة الجديدة في قوالب الماضي.

ورابعها الحكمة المشيمية الأصعب، تلك التي تعرف بالغريزة العميقة متى تمسك بالجنين لتغذيه، ومتى تحل الوصلة لتطلقَه إلى مصيره المستقل. إنها الحكمة التي تفرق بين الاختناق والاحتضان، بين التبعية والتأسيس. فهذه المشيمة العبقرية تعرف أن دورها مؤقت، وأن كمالها يكمن في قدرتها على التلاشي في الوقت المناسب، لتنمو الكينونة التي كانت تحميها. إنها تضحي بوجودها من أجل وجودٍ آخر، وهذا هو أعلى درجات العطاء المؤسسي.

فالمعهد الذي يجيب على هذا السؤال لا يبنى من الأسمنت والحديد، بل يُنسج من صبر الأرحام وحكمة المشائم وذاكرة المخاض. يصبح كياناً قادراً على خلق العوالم، ليس بالسيطرة عليها، بل بمنحها الحياة ثم حرية المغادرة. يصبح أماً كونية، قوامها العطاء لا التملك، والاحتضان لا الاحتكار، والتأسيس ثم التحرير. في هذا التحول من "المصنع" إلى "الرحم"، يكمن سرُّ الخلود المؤسسي: أن تموت كحاضن لتحيا كأصل، وأن تذوب كمشيمة لتخلد كسلالة.

سابعا : الكون الموازي داخل الجدران

في قلب الجدران الظاهرة، حيث يبدو الزمن خطياً والمكان محدوداً، تنفتح أبعادٌ موازية لا تراها العين المجردة، أكوان كاملة تنبض داخل الحيز الواحد. المستقبل هنا ليس غايةً ننتظرها في الأفق، بل هو واقعٌ موازٍ يعيش ويتنفس في أبعاده المتعددة، مثل صفحات مضيئة مفتوحة في وقت واحد داخل كتاب الكون. فالمعهد العظيم ليس مبنى يحتوي المعامل، بل هو بوابة تمر من خلالها العوالم الخفية، يتقاطع فيها الوجود الظاهر مع الوجود الباطن في رقصة كونية دائمة.

فهناك البعد الافتراضي، ذلك الفضاء الشفاف الذي يسبح فيه العلماء كالأنبياء الجدد، حيث تنحني قوانين الفيزياء المعروفة وتتطاوع. هنا يُختبر المستحيل ليس كتحدٍ، بل كمساحة لعب مقدسة. تذوب الجدران وتتلاشى الجاذبية التقليدية، فيصبح من الممكن محاكاة قلب النجم قبل انفجاره، أو رقصة الجزيئات داخل الخلية الحية، أو بناء مدينة كاملة في ذهن جماعي واحد. إنه المخيال المجسد، حيث يتنفس الحلم ويكتسب شكلاً وقواماً، قبل أن يجرؤ على الظهور في عالم المادة. في هذا البعد، الفشل لا تكلفته سوى إعادة ضبط المعادلات، والجرأة لا حدود لها إلا حدود الخيال نفسه.

وهناك البعد الاقتصادي، السوق السري الذي لا يتداول فيه الذهب أو النفط، بل تتقايض فيه الأفكار نفسها كعملة أولية. هنا، الفرضية الجريئة قد تساوي مليارات، والسؤال البريء قد يتحول إلى أسهم ترتفع وتنخفض في بورصة الابتكار. المعادلات تصبح عقوداً، والنظريات تتحول إلى محافظ استثمارية. هذا البعد لا يحسب بالدولار وحده، بل بـ "وحدة التأثير" و"سعر التغيير". إنه اقتصاد المعنى، حيث أغلى السلع هي تلك التي تستطيع أن تعيد تشكيل الواقع نفسه، حيث يتعلم المال لغة المعرفة، وتتعلم المعرفة لغة السوق، في حوار خلاق يولد ثروة من نوع جديد.

وفي عمق الصمت النسبي، ينبض البعد العصبي، الشبكة الكونية الخفية حيث تتلامس العقول دون حواجز الجسد أو الحدود. هنا لا يتواصل البشر بل تتواصل الأفكار مباشرة، تتزاوج المفاهيم وتتوالد في فضاء مشترك من الوعي الجمعي. إنه النظام العصبي للمعهد ككائن حي واحد، حيث كل ذهن هو عصبون، وكل محادثة هي شحنة كهربائية، وكل اكتشاف هو دفعة كيميائية تسري في الشرايين الجماعية. هذا البعد هو وعي المؤسسة بذاتها، حيث تعرف كل فكرة من أين جاءت، وإلى أين تتجه، وكيف تتصل بشبكة المعنى الكبرى.

وخلف كل هذه الأبعاد، يرتفع البعد الأخلاقي كقبة شفافة تراقب وترعى، كضمير كوني يسهر على ولادة كل فكرة منذ لحظة الإخصاب الأولى. هنا، لا تُقاس القيمة بالذكاء وحده، بل بالنية والاتجاه والتأثير. لكل ابتكار محكمة داخلية تسأله: لماذا تولد؟ ولمن؟ وإلى أي غاية؟ هذا البعد هو بوصلة الخلق، التي تضمن أن القوة الناتجة عن المعرفة لا تتحول إلى قوة عمياء. إنه الفضاء الذي تُختبر فيه الأفكار ليس بذكائها فقط، بل بقلبها النابض، بنزعتها نحو الحياة وليس نحو الدمار، برغبتها في البناء لا في الهدم.

فهذه الأبعاد الموازية ليست منفصلة، بل هي طبقات متداخلة في كينونة المعهد الواحدة، كأوتار كونية في آلة واحدة تعزف سيمفونية المستقبل. الافتراضي يلتقي بالاقتصادي عند نقطة الخطر المحسوب، الاقتصادي يلتقي بالعصبي عند لحظة التواصل الخلاق، العصبي يلتقي بالأخلاقي عند مفترق الاختيار المصيري. والمعهد الحقيقي هو الذي يتعلم التنقل بين هذه الأبعاد بسلاسة الساحر، ليكون ليس مكاناً في الخريطة، بل حالة من الوجود المتعدد، ورشة كونية حيث يصنع المستقبل ليس بانتظاره، بل بتجسيده في الأبعاد الخفية التي تنبض هنا والآن، داخل الجدران وخارجها، في وقت واحد.

ثامنا: الميتافيزيقا المعرفية

بين الأرقام الصارمة والنظريات المجردة، حيث يبدو كل شيء مادياً وقابلاً للقياس، تنبض في قلب المعهد أسئلة وجودية لا تجيب عنها المعادلات. إنه يتجاوز كونه آلة لإنتاج المعرفة، ليتحول إلى فيلسوفٍ وجودي يقف على حافة الهاوية المعرفية، يتساءل بجدية عميقة عن مغزى وجوده. ليس هذا سؤالاً إدارياً عن الرسالة والأهداف، بل هو استنطاق للجوهر: لماذا يوجد هذا الكيان الحجري والزجاجي في هذا الزمان والمكان؟ وما دوره في اللعبة الكونية الكبرى؟ إنه تأمل في المصير، بحث عن البصمة التي سيبقى أثرها بعد أن تتحول جدرانه إلى تراب.

ومن هذا التساؤل الوجودي الأول، ينطلق المعهد في رحلة بحثٍ عن غايته الكونية. لا يكتفي بدوره المحلي كمنتج للخريجين والأبحاث، بل يتطلع إلى كونه عقدةً في الشبكة الكونية للمعنى، نقطة اتصال بين الماضي والمستقبل، بين الأرض والسماء، بين الذرة والمجرة. يبحث عن دوره في السردية الكبرى للحضارة، ليس كفاعلٍ فحسب، بل كحاضنة للفاعلين، ليس كمنتجٍ للتقنية، بل كمولدٍ للرؤى التي تعيد تعريف الإنسان ومكانه في الكون. غايته ليست في الإضافة إلى المعرفة، بل في إعادة تعريف المعرفة نفسها، وفي إعادة خلق العالم من خلالها.

وفي ذروة هذا التأمل الفلسفي، يصل المعهد إلى قرارٍ مصيري خلاصته أن الخلود الحقيقي ليس في استمرارية الذات، ليس في بقاء الجدران شامخةً والأسماء منقوشة. الخلود الوحيد المقبول هو الخلود الديناميكي، التكاثر الوجودي. أن تموت ككيانٍ واحدٍ متماسك، لتحيا في ألف كيانٍ متناثر. أن تتحول من مركزٍ يشع نوره، إلى بذورٍ تحمل شفرته الوراثية الكاملة، فتزرع نفسها في تربة الأزمنة والأمكنة، لتنمو أشجاراً جديدة تحمل نفس الروح في أشكالٍ مختلفة. إنه إيمان بأن العظمة ليست في الصمود، بل في القدرة على التحلل والتشتت والتجدد في صيغ لا تُحصى.

وهكذا تصل الرحلة إلى الخاتمة الكونية: الولادة الثانية. لقد بدأ المعهد مسيرته كحجر جامد، ككتلة من الإسمنت والطموح، تاق إلى أن يتنفس علماً، ففتح نوافذه وأبوابه لرياح الأسئلة. ثم نما، فأصبح شجرةً عملاقة، جذورها من فضولٍ لا ينضب، وجذعها من منهجٍ صارم، وفروعها ممتدة في سماء التخصصات، تثمر أوراقاً بحثية وثماراً تطبيقية.

لكن الشجرة، مهما عظمت، تبقى فرداً في المنظومة. فالتحول الأعظم يقف الآن على العتبة: أن تتحول هذه الشجرة العظيمة إلى غابة كاملة. لا بل إلى بذرة غابات. ليس المقصد أن تكبر أكثر، بل أن تتعلم فن التخلي عن نفسها، لتلد من كينونتها أكواناً موازية مستقلة. أن تطلق سراح معرفتها كي لا تكون ملكاً، بل تكون نظاماً بيئياً قائماً بذاته، قادراً بدوره على خلق غابات جديدة. هنا تنتهي المؤسسة وتولد الأسطورة، ليس كماضٍ تُحكى عنه، بل كمستقبلٍ يتكاثر بلا توقف. تصبح الفكرةُ أمّاً، والمنهجُ أباً، والرؤيةُ سلالةً لا تنقطع. في هذه الولادة الثانية، يتحقق المصير الفلسفي الأعلى: أن تكون البداية نهاية، والنهاية بداية جديدة، في دورة وجودية حيث الموت هو أعظم أشكال الحياة، والذوبان هو أوج الازدهار.

هذه ليست نهاية، بل هي ولادة ثانية: الولادة الأولى: من الحجر إلى المعهد، الولادة الثانية: من المعهد إلى الكون المعرفي. المعهد لم يعد يكتب سيرته على جدران التاريخ، بل يخلق تاريخاً جديداً، ليس ككاتب، بل كحبر الكون الذي يكتب به الزمن سيرته الخاصة.

في النهاية، المعهد الذي يصل إلى هذه المرحلة يصبح أسطورة حية: كائن مات كمؤسسة، وبعث كفينكس، ليس ليعيش حياة ثانية، بل ليكون رَحِماً لحياة لا تنتهي.

إلى حُرّاس النار المقدسة: الأكاديميون والباحثون المصريون

أيها الحالمون تحت قبّة السماء المصرية، يا من تحملون في أدمغتكم بذور الأهرامات الجديدة، ليس سؤالكم اليوم "ماذا ندرس؟" بل "ماذا نخلق؟". ليس تحديكم في ندرة الموارد، بل في وفرة الإمكانات الكامنة في أعماق تاريخكم الذي يصرخ: "لقد صنعنا الحضارة من طين النيل، أفلا نصنع المستقبل من سيلكون الصحراء؟". لستم بحاجة إلى أن تبحثوا عن نموذجٍ تحتذونه في الغرب أو الشرق، فلديكم النموذج الأولي الأصلي منقوشاً في حجر: القدرة على التحول من الفكرة إلى الصرح، من الرمز إلى الكون.

تذكّروا أن كل دولار تنفقونه على بحثٍ جريء لا يختفي، بل يتحول إلى جين في جسم الوطن الاقتصادي. انظروا إلى ورقة البردي الأولى، لم تكن مجرد سجل، بل كانت نظام تخزين معلوماتي ثوري. هذه هي جيناتكم: الفكرة التي تتحول إلى نظام. لا تنتظروا التمويل، بل اخلقوا النموذج الأولي الذي يجذب التمويل كالمغناطيس. اطرحوا الأسئلة التي تخيف، فالخوف علامة على أنكم تقتربون من حدود المجهول الذي يحتاج إلى مستكشفين.

ليكن مختبركم هو مصر كلها، ومشكلاتها هي فرضياتكم، وتحدياتها هي معادلاتكم. لا تبنوا أسواراً عالية بين التخصصات، بل اسمحوا للطب بالزواج بالفن، وللهندسة بالتغازل بالفلسفة، فالولادات العظيمة تأتي من الزيجات غير المتوقعة.

خاتمة شعرية: نشيد الرحم الخالد

يا مَنْ يحملون في حقائبهم أكواناً

ويخطّون على الأوراق أقماراً..

ليس الفخرُ في كمّ الأبحاث نُشرتْ

بل الفخرُ في كمّ الحياةِ التي وُلِدتْ

لم نعدْ حَجَراً في صحراءِ الزمنِ

صرنا رَحِماً للكونِ، للمستحيلِ

نخيطُ بأحلامِ الشبابِ مشيمةً

ونعصرُ في أنابيقِنا إنجيلَ التّحولِ

شتاؤنا ليس الموتَ، بل هو سِباتٌ

لأفكارٍ تستجمعُ النّورَ الكامنا

وصيفُنا يحترقُ كالفرنِ ليصهرَ

خامَ الأسئلةِ ذهباً يتألّقُ في الواقعِ

يا مصرُ، كوني الرّحمَ الذي لا يملُّ الحملَا

كوني السّائلَ الأمينوسيَّ للعالمينا

ففيكِ، وفي علمائكِ المصلّينَ في محرابِ الفكرةِ

سِرُّ الخلودِ: أن تموتَ شجرةً.. وتُولدَ غاباً

وأن تذوبَ كنهرِ النيلِ.. في كلّ شَرِيكٍ.. وفي كلّ بذرةٍ.. وفي كلّ حصادٍ.

فلا تنتهي الحضارةُ.. بل تتناسخُ

من جيلٍ.. إلى كونٍ.. إلى أزلٍ.. لا يُدرَكُ.

إيهاب محمد زايد من الرحم الحجري إلى الرحم الكوني: الميتامورفوز المعرفي برولوج: في دهليز التحول الوجودي الجارديان المصرية