الثلاثاء 16 ديسمبر 2025 07:02 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

السيناريست عماد النشار يكتب : «ست» مراد التي في خاطره… بين الإبهار البصري وتشويه الرمز

لسيناريست عماد النشار
لسيناريست عماد النشار

ليس من السهل الاقتراب من سيرة أم كلثوم، ليس لأنها «محرَّمة» على التناول، بل لأنها واحدة من أكثر الشخصيات التي تشكّل وعيًا جمعيًّا متراكمًا لدى أمة كاملة، عبر الفن والوطنية والذاكرة. ومن هنا، فإن أي عمل درامي عنها لا يُقاس فقط بمعاييره الفنية، بل بمدى مسؤوليته التاريخية والوجدانية.

يخرج فيلم «الست» إلى النور محمّلًا بجهد بصري واضح لا يمكن إنكاره. الإخراج متقن، الصورة مبهرة، الفوتومونتاج ذكي، والموسيقى والديكور وتصميم الملابس على درجة عالية من الاحتراف. ويبدو جليًا أن فريق العمل بذل جهدًا استثنائيًّا في بناء العالم البصري للفيلم.غير أن هذا الإبهار، للأسف، وكأنه دسٌّ للسم في العسل، يصطدم منذ البداية بعنصر هو الأضعف: السيناريو والرؤية الفكرية؛ إذ يفتتح الفيلم بمشهد سقوط مستعار من فيلم إديث بياف، لا بوصفه إحالة جمالية بريئة، بل كتمهيد رمزي لسقوط أم كلثوم في عين كاتب العمل، وهي الفكرة التي يعمل الفيلم منذ لحظته الأولى على إيصالها إلى ذهن المتلقي.

وهنا تبدأ المعضلة الأساسية، لا بوصفها اختلافًا مشروعًا في الرؤية، بل بوصفها غيابًا لسؤال جوهري لا يمكن تجاوزه: من هي أم كلثوم في وعي كاتب الفيلم؟ وماذا تمثل له؟
الإجابة التي يخرج بها المشاهد، خاصة من الأجيال الجديدة، أن أم كلثوم شخصية كئيبة، متسلطة، أنانية، منعزلة، لا ترى في العالم سوى نفسها؛ وهي صورة تصطدم تصادمًا مباشرًا مع الشهادات التاريخية، والوقائع الموثقة، والموروث الثقافي المعروف.

لا يقدم الفيلم أم كلثوم بوصفها نتاج عصر، ولا بوصفها مشروعًا إنسانيًّا وفنيًّا تشكّل عبر شبكة واسعة من العلاقات والداعمين والمؤمنين بموهبتها، بل يعزلها داخل مساحة نفسية مغلقة، تفيض بالكآبة والتجهم والصدام الدائم مع الآخرين، وكأنها كيان مكتفٍ بذاته، منفصل عن محيطه وسياقه.

وتتفاقم الإشكالية في تصوير البعد الإنساني والعائلي، حيث يقدّم الفيلم علاقتها بأسرتها بوصفها علاقة هيمنة وابتزاز؛ تظهر وكأنها تمارس سلطة قاسية على والدها، وتُهين شقيقها وأفراد عائلتها، بينما يخشاها الجميع. هذه المعالجة، دون أي موازنة أو إبراز لجانب إنساني مقابل، تُفضي إلى نتيجة واحدة: إلغاء الإنسانة لصالح صورة قاسية أحادية البعد.

وفي السياق نفسه، يقدّم الفيلم سردية نجاح بلا شركاء. يتجاهل عمدًا أو تقصيرًا محطات أساسية في رحلتها، فيغيب الشيخ أبو العلا محمد، ويُهمَّش لقاء سيد درويش، وتُختزل علاقاتها مع السنباطي وبيرم التونسي وزكريا أحمد وبليغ حمدي في لقطات عابرة لا تصنع معنى. وكأن الرسالة الضمنية أن أم كلثوم صنعت نفسها وحدها، بينما الحقيقة أن عبقريتها نمت داخل سياق ثقافي وفني ثري، شارك في بنائه آخرون كبار.

الأخطر من ذلك هو إقصاء الدور الوطني والسياسي. يتجاهل الفيلم مواقفها السياسية المبكرة، ورثاءها لسعد زغلول، وشجاعتها في مواجهة السلطة الملكية، ودعمها للجيش في حرب 1948، ومساهماتها العربية، ودورها الحاسم بعد نكسة 1967 في رفع الروح المعنوية للأمة. بل يذهب إلى تقديمها كشخصية وصولية، مترددة، تمسك العصا من المنتصف، وتغني مُكرهة، وهو طرح يناقض وقائع تاريخية ثابتة، ومواقف موثقة، وشهادات معاصرين.

ولا تتوقف الإشكاليات عند هذا الحد، إذ تتكرر المغالطات التاريخية، مثل تصوير فوزها بنقابة الموسيقيين كفعل ابتزاز، رغم أنها صاحبة المشروع، وانتُخبت سبع دورات متتالية في عهود سياسية مختلفة. كما يُغفل الفيلم شجاعتها الأخلاقية في زمن الستينيات، وزيارتها مصطفى أمين في سجنه حين تخلى عنه الجميع.

على المستوى التعبيري، يعتمد الفيلم بكثافة على مشاهد الوحدة، والتدخين، والصمت الثقيل، والملامح العابسة، في محاولة لصناعة «عمق نفسي»، لكنه يقع في فخ السوداوية المجانية التي لا تضيف فهمًا بقدر ما تخلق نفورًا، خصوصًا حين تُسقَط على رمز تاريخي بحجم أم كلثوم.

المشكلة هنا ليست في النقد أو إعادة القراءة، بل في تفكيك الرموز دون إعادة بناء. فالفن ليس مطالبًا بالتقديس، لكنه مطالب بالإنصاف. وحين يُقدَّم عمل عن رمز بهذا الحجم للأجيال الجديدة، فإن تشويهه لا يُعد جرأة، بل قطيعة مع الذاكرة والهوية.

في المحصلة، «الست» فيلم متقن الصنعة، ضعيف الرؤية؛ مبهر في الشكل، مرتبك في الجوهر. نجح في الصورة، وأخفق في المعنى. تبدو الرؤية الفنية للفيلم وكأنها لم تُبنَ على دراسة متأنية للشخصية والتاريخ، بل حملت نزعة لإعادة تشكيل الرمز وفق أهواء شخصية للكاتب، لا وفق الحقيقة التاريخية أو الإنصاف الفني. هذا التشويه لا يمثل جرأة، بل يضع الرمز في سياق مغلق أحادي البعد، بعيدًا عن إنسانيته وحضوره الوطني والفني.

ويبقى السؤال المعلّق بعد انتهاء العرض ليس: كيف كانت أم كلثوم؟
بل: لماذا اختار صُنّاع العمل أن يروا الرمز بهذه الصورة، وأن يقدّموه وفق أهواء شخصية على حساب الحقيقة التاريخية والذاكرة الجمعية؟

في النهاية، الفن ليس مطالبًا بالتقديس، لكنه مطالب بالإنصاف، خصوصًا حين يتناول رمزًا يلامس وعي أمة ووجدانها وهويتها.

السيناريست عماد النشار «ست» مراد التي في خاطره… بين الإبهار البصري وتشويه الرمز الجارديان المصرية