الأحد 28 ديسمبر 2025 12:29 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

د. نهال أحمد يوسف تكتب : *خدينا طهر وروح وردي فينا الروح*

د. نهال أحمد يوسف
د. نهال أحمد يوسف

"يا ليلة عودي تاني.. خدينا طهر وروح وردي فينا الروح"؛ استحضرتني هذه الكلمات المسكونة بالشجن والصفاء للشاعر الكبير عبد الرحيم منصور وأنا أطالع عرض "سجن النسا" (2025) على خشبة مسرح السلام، إذ لم تكن هذه الكلمات جزءاً من نسيج العرض السينوغرافي، إنما كانت الصدى الوجداني والنداء الداخلي الذي أطلقه وعيي أمام حالة من "الطهر الفني" أعادت الروح للمسرح المصري المعاصر. لقد نجح المخرج يوسف مراد منير في إعادة قراءة نص الراحلة فتحية العسال بوعي إخراجي محترم، تجاوز حدود النص الأصلي الذي ناقش ببراعة مشاكل المرأة الاجتماعية في مصر، ليضيف إليه عمقاً بصرياً وفلسفياً حوّل التراجيديا إلى مرآة كاشفة لمظلومية المرأة في قالب عصري يضج بالصدق، مؤكداً أن تحويل الرواية إلى عمل مسرحي بهذا الإتقان هو ما منح النص الأصلي حياةً ثانية وأبعاداً إنسانية أكثر رحابة تليق بإنتاج فرقة المسرح الحديث.
لقد لفت نظري منذ الاستهلال ذلك التوظيف الذكي للديكور الذي صممه محمود صلاح، حيث استطاعت الإضاءة التي أبدعها محمود الحسيني خلق "مود" سجني بامتياز برغم بساطة الإمكانيات المادية، إذ نجحت العناصر البصرية في سحب المتفرج إلى قلب الزنزانة قبل أن تلتحم الشخصيات بالحدث. لم تكن هذه العناصر مجرد تأثيث للفراغ، إنما كانت أداةً لرسم حصارٍ نفسي وبصري أدخلنا في مناخات السجن الخانقة، وجعلت من خشبة المسرح شريكاً في الحكي يعبر عن ضيق الجدران وقسوة الأماكن التي تحاصر الأرواح قبل الأجساد، وهو ما يعكس اهتماماً غير طبيعي بالتفاصيل من قبل المخرج يوسف مراد منير الذي يثبت يوماً بعد يوم أن الإبداع يكمن في إتقان التفاصيل الصغيرة وتوظيفها درامياً بشكل محكم.
وفي قلب هذا المناخ الدرامي، برز الأداء الغنائي الرائع للفنانة هبة سليمان التي قامت بدور "السجانة" والبطولة الغنائية، إذ جسدت ببراعة مذهلة تذبذب مشاعر امرأة تحيا صراعاً داخلياً مريراً بين كونها منفذة للقانون وبين كونها امرأة وأماً تشعر بوجع السجينات. الكلمات التي صاغها أحمد الشريف والألحان التي قدمها محمد عزت في عرض "لايف" كانت بمثابة الجسر الروحاني الذي عبرت عليه مشاعر الشخصيات، وقد اكتملت هذه الحالة الموسيقية بالأداء الحي من العازفين مصطفى كرم، أحمد عصام، وديع أديب، لواء يحيى، ومحمد حزين، مع الأصوات الغنائية فريدة أسامة وميار طارق، مما جعل الموسيقى التصويرية في هذا العرض عنصراً درامياً فاعلاً يربط بين حكايات السجينات ويمنحهن صوتاً مسموعاً وسط جدران الصمت.
لقد قدمت بطلات العرض؛ صفاء جلال، رباب طارق، شريهان الشاذلي، آية أبو زيد، عبير الطوخي، شريهان قطب، ليلى مراد، صافي فهمي، ساندرا ملقى، زينة قطري، إيريني مجدي، وولاء الجندي، بمشاركة الفنان إكرامي وزيري، مباراةً في الصدق والاندماج الرهيب الذي لم يجعل العين تتوارب لحظة عن المسرح. كنا أمام حالة من "التوحد الدرامي" الطاغي، إذ ذابت الممثلات في أدوارهن بصدق جارح، فكل واحدة منهن كانت تعيش الشخصية في كافة لحظاتها، حتى حينما لا تكون في صدارة المشهد، إذ ظل الجميع في حالة تمثيل حي وتفاعل مستمر دون انتظارٍ رتيب للأدوار. هذا الاندماج الذي وصل حد البكاء والحالة الحقيقية من الصدق، تعزز بتوظيفٍ واقعي للمكياج من تنفيذ أدهم عفيفي وتصميم الأزياء لسارة شكري بما يتماشى مع الشخصيات والظروف القاسية للسجن، مما أضفى لمسة من الطبيعية جعلت الجمهور يصدق ويعيش كل تفصيلة.
وقد توجت استعراضات "الزار" و"السبوع" التي صممها محمد بيلا هذا التميز، إذ امتزجت الحركة الجسدية بالموسيقى والغناء في حالة من التوحد والصدق الفني المذهل، محولةً الطقوس الشعبية إلى أدوات للتعبير عن المكبوت والانفجار الإنساني. كما جاء السرد غير الخطي الذي اعتمده المخرج ليمنح العرض كثافةً رائعة قتلت رتابة الزمن، فكان تتابع الأحداث وظهور الشخصيات يسير بنمط متجدد يخلو من التكلف، مما حال دون شعور المشاهد بأي ملل برغم ثقل المادة الدرامية. وتجلت الرمزية هنا في أن السجن هو المجتمع بذاته، والمسجونات هن النساء اللواتي حاصرتهن ضغوطات الحياة في واقع لا يشبه نقاء قلوبهن، ليصبح الخطأ هنا فعلاً إنسانياً مثقلاً بأوجاع مجتمعٍ قاهر حصرهن في واقع غير حقيقتهن.
إن ما قدمه المخرج يوسف مراد منير في "سجن النسا" هو شهادة إتقان تثبت أن الإبداع الحقيقي لا يزال يسكن عروق المسرح المصري، إذ أظهر اهتماماً فائقاً بالتفاصيل الدقيقة التي تجعل من العمل وحدة عضوية متكاملة تليق بإنتاج فرقة المسرح الحديث تحت إدارة الفنان محسن منصور. وما وجدته فيه من تواضع وأدب جم يؤكد أنه فنان صادق حقيقي يدرك قيمة الفن ورسالته، ويمثل امتداداً لمسرح مصر العظيم الذي نتمناه ونفخر به. لقد كانت تجربةً جعلتني كمتفرجة أنبهر وأفرح وأبكي في آنٍ واحد، وأتمنى تكرارها لمرات عديدة، فالعرض لم يكن مجرد فرجة مسرحية، إنما كان رحلةً لتطهير الروح واستعادتها من جديد في حضرة الفن المخلص والمبدعين الحقيقيين.

د. نهال أحمد يوسف *خدينا طهر وروح وردي فينا الروح* الجارديان المصرية