الخميس 1 يناير 2026 12:32 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

سماح عزام تكتب : من يدفع الثمن؟

الكاتبة سماح عزام
الكاتبة سماح عزام

في الفلسفة الأولى للعمل، وُجدت الوظيفة لتكون سندًا لا عبئًا، واستقرارًا لا تهديدًا، وجسرًا يعبر به الإنسان من ضيق الحاجة إلى كرامة العيش. لكنها في واقع معاصر متسارع وقاسٍ، انقلبت عند كثيرين إلى المصدر الأول للتوتر في الحياة، حتى غدت الخسارة الأثقل التي تخلّفها ليست مالًا ولا منصبًا… بل الصحة.
الصحة التي لا تُعوَّض، والتي حين تتصدّع لا تشفع لها كشوف المرتبات، ولا ترقيات المناصب، ولا عناوين الإنجاز المعلّقة على الجدران. ليس العمل في ذاته عدوا للانسان ،بل ما ألصق به من ممارسات غير انسانية ألا وهى : ساعات ممتدة بلا ضوابط. ، ضغوط نفسية متراكمة ، غموض وظيفي ، تهديد دائم بالفقد ، إدارة تجيد المحاسبة ، وتفشل في الاحتواء ,و ثقافة مؤسسية ترى الموظف رقما لا روحآ .
هنا لا تعود الوظيفة مصدر أمان للأسرة، بل تصبح سببًا مباشرًا في تفككها؛ أب غائب ذهنيًا وإن حضر جسديًا، أم مرهقة أعصابها مشدودة كوتر لا يحتمل لمسة، وأطفال يتربّون على القلق أكثر مما يتربّون على الطمأنينة، وهنا يأتي من يدفع الثمن حتماً ألا وهو الجسد ،يدفع فاتورة الصمت ،ما لا يقال في المكاتب ، يصرخ به داخل الجسد ، والضغط المزمن لا يمر بلا ثمن : ارتفاع ضغط الدم ، اضطرابات القولون ، أرق مزمن ، ضعف المناعة ،نوبات قلق واكتئاب ، نوبات قلب تظهر مبكراً ،وكإن العمر قفز سنوات في أشهر ،والخطر من المرض ذاته ؛ هو تطبيعه ، فيتعامل الإنسان مع الألم بوصفه جزءًا من العمل ، ومع الإرهاق بوصفه ثمن النجاح ومع الإنهيار النفسي على أنه ضعف شخصي ، خلال منظومة ثقافة ،"تحمل " ، بدل ثقافة "حماية " .
في كثير من بيئات العمل، يُكافأ من يتحمّل أكثر، لا من يعمل بذكاء ، يشاد بمن ينهك نفسه ، ويتهم بالتقصير من يطلب حقه في الراحة ، ترفع شعارات الإنجاز ، بينما تغيب تماماً سياسات الصحة النفسية ،والتوازن بين العمل والحياة ، والحد الأدنى من الأمان الوظيفي ،وهنا تقع المفارقة القاسية .
المؤسسة التي تستنزف موظفيها، إنما تستنزف مستقبلها بيدها.
فالعقل المرهق لا يبدع، والنفس المحطّمة لا تنتج، والجسد المنهك لا يستمر.
من المسئول؟ سؤال لا يجوز الهروب منه .
المسؤولية مشتركة، لكنها غير متساوية.
المؤسسات مطالبة بإعادة تعريف النجاح، وربطه بالاستدامة الإنسانية لا بالضغط الأقصى.
الإدارات مطالبة بفهم أن القيادة ليست سيطرة، بل رعاية وتوجيه.
صنّاع القرار مطالبون بتشريعات تحمي الإنسان قبل المؤشرات والأرقام.
الأفراد مطالبون بالشجاعة: شجاعة الوعي، والرفض، ووضع الحدود قبل أن يضع الجسد حدوده القاسية.
الصحة ليست رفاهية… بل حق أساسي
العمل الذي يسلب الإنسان صحته، هو عمل فاشل مهما بدا ناجحًا على الورق. و الوظيفة التي تهدد السلام النفسي ليست أماناً بل خطرآمؤجلا ، آن الأوان لإعادة الإعتبار لفكرة بسيطة وعميقة ،
أن الإنسان ليس آلة إنتاج، وأن الصحة ليست امتيازًا يُمنح، بل حقًا لا يُمس.
نداء مباشر إلى صُنّاع القرار ، اعيد النظر ، لا في تقارير الأداء وحدها ،بل في وجوه العاملين ، في أعينهم المتعبة ، وفي صمتهم الطويل ، ضعوا الصحة الجسدية والنفسية في قلب سياسات العمل لا في هامشها ، فالأمم لا تبنى بموظفين منهكين ، ولا تدار بعقول محطمة ....
احموا الإنسان… تحموا مستقبل الإنتماء في مصر..

سماح عزام من يدفع الثمن؟ الجارديان المصرية