السبت 20 أبريل 2024 10:16 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

عالم المرأة

ذكرى جمال الغيطاني.. حين استعاد روحه بـ«طبق فول مدمس وباذنجان»

الروائي جمال الغيطاني
الروائي جمال الغيطاني

يوافق اليوم ذكرى رحيل الروائي جمال الغيطاني، أحد أبرز كتاب الرواية العربية، الذي رحل عن عالمنا 18 أكتوبر 2015، بعد تعرضه لوعكة صحية شديدة.

وطغت الروح المصرية على ثقافة الغيطاني الواسعة، أظهرها في كتاباته سواء الروائية أو الصحفية، متنقلًا في حكاياه برشاقة بين الريف والأرض، وملوك الحضارة المصرية القديمة، غير أن جانبًا مهمًا آخر يثير الاهتمام عنده، وهو الأكل.

في البداية كان يرى الروائي الكبير الأكل مجرد وسيلة، لكنه عرف أنه أكثر من ذلك، فهو جزء من الذاكرة، بل وله دور هام في العلاقات الإنسانية.

كان شعاره مع هذا الموضوع: "أتذوق واستمتع بالأكل الجيد إذا وجد- أما إذا لم يتح لي فأبسط ما تيسر يرضيني".

وقال: "لم أكن أهتم بموضوع الأكل والدور الذي يلعبه في العلاقات، اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية بالنسبة لي كان الأكل جزءا من حياتي اليومية، كأي إنسان طبعا أحببت أصنافا معينة، ينتمي إعدادها كلها إلى ما كانت تعده لنا الوالدة ـ رحمها الله ـ ولكنني لم أحرص على الارتباط بنوع معين".

اكتشاف سحر الطعام:
يحكي الغيطاني عن بداية تفكيره في الأكل بشكل مختلف من موقف عاشه مع صديقه، أثناء زيارته للندن في بداية رحلة أوروبية استغرقت شهرًا، كان مدفوعًا بالرغبة في رؤية المتاحف الشهيرة، والوقوف أمام الأصول في الفنون التي لم يراها إلا مطبوعة في الكتب أو المجلات، وفي كل الأحوال شتان ما بين الفرع والأصل.

قال: "خلال زيارتي صاحبت صديقا مصريا هاجر إلى لندن، وعمل في المسرح مخرجا وممثلا ثم انتقل إلى الصحافة" مضيفا "مواقف عديدة أتذكر من خلالها صاحبي هذا، لكنني إذ استعيده أو يرد اسمه يقفز إلى مقدمة الذاكرة حديثه في الهاتف إلى مخرج إنجليزي أخبرني أنه مشهور ومهم كان يدعوه إلى الغداء، ويبدو أن المخرج رحب بالدعوة لأنني سمعت صاحبي يستفسر منه عن الأشخاص الذين يفضل وجودهم، هل يقترح أسماء معينة؟ وعندما أمسك بالقلم أدركت أن الرجل اقترح اسما أو اسمين التفت صاحبي إلى، قال إنه سعيد جدا بقبول الرجل لدعوة الغداء، إنه مخرج مهم ويأمل خيرا من التعرف إليه، ثم عاد ليتصل بصديقته ليخبرها أن المخرج قبل الدعوة وأنه سيتناول معه الغداء إذن في المطعم ـوبعد أن انتهى عاود الاتصال بصاحب عربي له، في البداية كان حديثه عاديا ثم قال فجأة إنه سيتناول الغداء إذن مع المخرج الإنجليزي، وخلال ساعة كان عدد المكالمات التي أجراها حوالي سبع مكالمات هاتفية يشرح في كل منها أمرا، لكنه يذكر دعوته الرجل إلى الغداء غدا قلت له مداعبا. يا أخي فضحت الرجل على وجبة.. قال لي "إن مجرد تناول الغداء مع هذا الفنان مهم فما الحال إذا كان يلبي دعوته" "عندئذ فهمت أن هذه المكالمات جزء من الإعلان أو الإشهار أو الدعاية عن نفسه".

أدرك الغيطاني من هذا الموقف قيمة الأكل ودوره في الربط بين العلاقات، متذكرًا كم لعبت الأصناف المحببة له دورًا في ذاكرته، ورسمت الأطباق الشهية ألوانًا وحكايات داخل نفسه، ويحكي: "كثير من الأصناف التي عرفتها طفلا من مثيرات ذاكرتي، مثل الخبز الشمسي الذي نعده في صعيد مصر، والملوخية الخضراء ذات العبق المصري الأصيل، سواء كانت خضراء في موسمها أو جافة أي محفوظة، وتلك تعد بإتقان في صعيد مصر، وأوقن أن طريقة حفظها منحدرة إلينا من العصر الفرعوني، ونسميها في الصعيد (الملوخية الناشفة)، كذلك الأسماك بأنواعها، والفول المدمس المتقن، والباذنجان المقلي في الزيت، المغمس بالخل والثوم، والمخلل منه بأنواعه المختلفة، الأكل ركن أساسي في الذاكرة".

يستعيد الروائي المصري ذكرى الأيام التالية لإجرائه جراحة القلب في الولايات المتحدة، ويعرف أن الأكل كان حاضرًا في هذه الأيام حين أمره طبيبه المعالج بأكل كل ما يرغب مدة أربعين يوما، لكن بعد تمامها يجب الالتزام بنظام خاص وأي خروج عنه مكروه ولن يتحمل مسئوليته.

ويحكي عن زوجته التي عادت فور حديث الطبيب إليه محملة بأحجام مختلفة من الجمبري اشترتها من السوق، وأجزاء الديوك الرومي، وقطع الضأن والبتلو الممتازة، "سرعان ما لعلعت في فضاءات الفندق روائح التقلية الشهية التي تنتج عن البهارات، غير أنها فوجئت بي أطلب الفول المدمس والباذنجان المقلي.

بدت زوجته حائرة، من أين لها يمكن أن تجد الفول المدمس بالفندق؟.. لم ينقض وقت إلا وعادت متهللة لتخبرني أنها عثرت على الفول المدمس يقدم على الطريقة المصرية، في الفندق الآخر التابع للمستشفى أيضا، كان الطبق سعره سبعة دولارات، أعلى من السمك والدجاج، وأدركت أن إدارة المستشفى التي لا يغيب عنها أي صغيرة أو كبيرة لاحظت حنين المرضى إلى الأطعمة التي عرفوها في سنواتهم الأولى، لذلك وفرت للمصريين الفول والطعمية وحتى المخلل، ولا أذكر أنني استمتعت بمذاق أشهى من ذلك الذي عرفته لحظة التهامي أول طبق فول بعد العملية، وكأني أعيد اكتشاف العمر الأول، إذن الأكل ذاكرة".