د اميمة فيصل تكتب : قراءة في كتاب (الأدب المصري من الفتح العربي الإسلامي لمصر إلى العصر العثماني للدكتور عوض الغباري )


أحييكم تحية عطرة تليق بهذه الأمسية الرائعة .. و كل الشكر للصديق العزيز الأستاذ الدكتور عوض الغباري على هذه الثقة الغالية، فقد أسعدني بهذه الدعوة الكريمة للمشاركة في هذه الندوة الرائعة .
الحقيقة أنني عند قراءة هذا الكتاب لاحظتُ من أول وهلة أنه يتسم بالثراء الكبير في دراسة الأدب و تاريخه و دراسة الثقافة العربية و الإسلامية .
(1) في البداية إذا أردنا أن نتعرف على هذا الكتاب و ما يحتويه نجد أنه مُكَوّن من مقدمة و عشرين فصلا و خاتمة .
أما المقدمة : فأراها ثرية جدا تستحقُ أن تكون كتابا وحدها - و أنصح الجميع بقراءتها - لأنه تناول فيها أهم القضايا المتعلقة بالأدب المصري ، و شرح فيها تطوره و ازدهارها في فترة زمنية طويلة و عصور مديدة امتدت حوالي 1200 سنة : من السنة العشرين (20) للهجرة إلى سنة 1220 للهجرة . و هي فترة ليست بالقليلة أبدا ، و التطورات التي حدثت فيها ليست بالخيانة ، و التغيُّرات السياسية و الاجتماعية التي اكتشفتها لها تأثيرات قوية على الحياة الثقافية و الفكرية .. و هذه عصور لم تخلُ من التنوع الأدبي و الثقافي و الفكري . و قد قال المؤلف نفسه عن هذا الكتاب إنه لبنة في الخطوة المأمونة بدراسة الأدب المصري ،
و لكني أراهُ يُمثل جِسرًا كبيرًا ، و ليس مجرد لبِنة ..
(2) و الكتاب في فصله الأول عرض منهجٓ دراسة الأدب المصري من خلال أهم رواده : الشيخ أمين الخولي ، و الأستاذ الدكتور حسين نصّار ، و عبد اللطيف حمزة ) ، و هم يمثلون أهم من درسوا الأدب المصري و بحثوا فيه و أرّخوا له .
و في بقية فصول الكتاب تناول بعض أعلام الأدب المصري ، شعرا و نثرا ؛ و وقف على سيرتهم الأدبية ، و قام بتحليل نصوصهم البارزة .. و الحقيقة أنني أريد أن أسجل هنا إعجابي الشديد بمنهجه في اختيار هؤلاء الشعراء و الأدباء ، و أسلوبه في انتقاء النماذج و النصوص التي تمثل فنهم ؛ ذلك أن ذلك الاختيار و الانتقاء يبين أنه كان قائما على رؤية دقيقة و منهج واعٍ مستنير ينظر من زاوية نقدية واعية .
فاختار - مثلا - ابن وكيع التنسيب شاعر الزهر و أبرز شعراء الطبيعة في مصر ،
و اختار الشريف العقيلي ،
و ظافر الحداد شاعر الإسكندرية ، و تميم بن المعز ، شاعر الفاطميين ، ثمنها ابن سناء المُلْك ، أكبر الشعراء المصريين في العصر الأيوبي ، و أبرز من مدخول صلاح الدين الأيوبي ..
كما اختار ابن النبيه المصري ، شاعر الغزل ،
و ابن الفارض ، شاعر الحب الإلهي ، و البوصيري شاعر البُرْدة المُبارٓكة في المديح النبوي ، و كذلك اختار ابن نباتة المصري ، شاعر العصر المملوكي ، و رمز التناصّ
و التأثر بالتراث العربي .
و وقف على أهم الأغراض الشعرية في الأدب المصري كالغزل الذي برع فيه البهاء زهير ، و الأدب الفكاهي الذي يعبر عن الروح المرحة الأخاذة لدى المصريين ..
كما أفرد فصلا خاصا لفن الزجل المصري من خلال عرض أزجال الشيخ ( خلف الغباري ) الذي ينتسب إليه كما صرح في كتابه ، و الذي يُعَدُّ رائد فن الزجل في الأدب المصري ..
* كما تناول في فصول الكتاب فنون النثر التي ازدهرت في مصر في هذا الزمن .. مثل أدب الرحلة ، فقد خصص فصلا لأدب الرحلة في مصر في العصر العثماني من خلال رحلة سردها عالم أديب صوفي هو "عبد الله النابلسي " في كتاب من ثلاثة مجلدات بعنوان (الحقيقة و الجاز في الرحلة إلى بلاد الشام و مصر و الحجاز ) . و قد اتضح فيه أثر التصوف في الأدب المصري و خصوصيته .
و المقامات التي مثّل لها بمقامات السيوطي . و السرد و الحكايات . و المصادر الموسوعة أيضا ؛ إذ تناول رواد التأليف الموسوعي الذين برزوا في مصر مثل السيوطي و النويري .
و كذلك أدب النوادر حيث تناول كتابا منفردا في نوادر سيبويه المصري ألفه معاصره المؤرخ المصري ابن زولاق بعنوان (أخبار سيبويه المصري) . و غيرهم من الرواد الكثيرين البارزين في مناحي الثقافة و الأدب المصري . فقد شهدت تلك الفترة الطويلة عطاءات مصر أدبيا و ثقافيا و حضاريا ؛ وكذلك كانت متقدمة في فنون العمارة و الزخرفة
و الصناعات اليدوية التي تتسم بجمال فنها و روعته . الخلاصة أن مصر كانت منارة الحضارة العربية و الإسلامية الزاهرة بينما كانت أوروبا في ظلام العصور الوسطى ..
(3) و قد استوقفني في هذا الكتاب (عدة إضاءات) كبيرة) :
أما أولاها : فتتعلق بالطريقة السلسة التي حدد بها العصر الذي يتحدث عنه الكتاب ، فقد عرضها بأسلوبٍ أظهرها شاملة و محددة في نفس الوقت ؛ حيث قال في مقدمة الكتاب : " هذا كتاب في الأدب المصري من الفتح العربي الإسلامي لمصر في السنة العشرين للهجرة إلى نهاية العصر العثماني " و هذا تاريخٌ طويلٌ عريق امتد اثني عشر قرنًا من الزمان ، في رحلة حافلة بالعلم و الأدب
و العطاء ، قدّمَ أبناء مصر - من خلالها إسهاماتٍ مصرية- حضارية كثيرة في إطار الثقافة العربية و الحضارة الإسلامية " . ص 5 ..
و قد عرض لنا المؤلف هذه الفترة الطويلة بسلاسة
و وضوح لا يشعكرك بالملل أو الإطالة: فعرض مرحلة الفتح الإسلامي على يد عمرو بن العاص في زمن الخليفة عُمر بن الخطاب في السنة العشرين للهجرة إلى نهاية العصر العثماني سنة 1220 هجريا (1805) م بتوَلّي محمد علي حكم مصر، و بداية العصر الحديث ، مرورا بعدة دول و عصور هي :
(أ) عصر الوُلاة الذي استمر 234 سنة ، حيث كانت مصر ولاية تابعة للخلافة في عصور الخلفاء الراشدين
و الأمويين و العباسيين .
(ب) ثم قامت الدولة الكولومبية على يد أحمد بن طولون التي استمرت 69 سنة.
(ج) ثم الدولة الإخشيدية على يد كافور الإخشيدي ،
و استمرت 35 سنة .
(د) ثم قامت الدولة الفاطمية التي استمرت ما يقرب من 208 سنة و معها تأسست القاهرة و تأسس الجامع الأزهر على يد جوهر الصقلي قائد (المُعِز لدين الله الفاطمي ) .(ه) ثم قامت الدولة الأيوبية على يد صلاح الدين الأيوبي، و استمرت 81 سنة ، و على الرغم من أن الفاطميين كانوا أصحاب المذهب الشيعي فقد ظلَّ المصريون متمسكين بمذهبهم السُّني المعتدل المنسق مع مذهبهم الاعتدالي رغم استمرار الدولة الفاطمية ما يقرب من 209 سنة ..
(و) ثم قامت الدولة المملوكية التي حكمت مصر ما يقرب من 274 سنة، حقق خلالها المصريون النصر على التتار في "عين جالوت" بقيادة (قُطُز) و في حكم الظاهر بيبرس .
(ز) ثم قامت الدولة العثمانية التي استمرت ما يقرب من 298 سنة ، انتهت بتولي محمد علي حكم مصر
و بداية العصر الحديث .
و قد اتسمت تلك العصور بالازدهار في الأدب و الثقافة و العمارة و الزخرفة ، على عكس الفكرة السائدة التي شوّهتها و وضمتها بالتخلف و الانحدار و تهور أحوال الفكر و الأدب و الثقافة .
(4) أما الإضاءة الثانية بهذا الكتاب : فتتعلق بحرص المؤلف على الالتزام الالتزام بمبدأ رد الاعتبار للحضارة العربية و الإسلامية و دورها في نهضة أوربا الحديثة ، حيث يقول في مقدمة الكتاب : " و خلال خمسة قرون ،على الأقل من القرن العاشر الميلادي إلى القرن الخامس عشر الميلادي كان العلم العربي هو الذي قدم بأوربا من العلم ما استعانت به على انتقالها من التخلف في العصور الوسطى إلى التقدم في العصر الحديث . و ربما أراد الغرب أن يطمس معالم هذه الحضارة العربية في العصور الإسلامية ، فأطلق عليها العصور الوسطى ، موهما أنها كانت عصورَ تخلفٍ و ظلام كما كان في أوربا مُنكِرًا فضل العرب عليه " . ص 5 . و الحقيقة أن هذه العبارة استوقفتني
و أسعدتني .. بل إنها أثلجت صدري ؛ إذ يبدو أن الدكتور عوض الغباري أراد من خلالها أن يَرُد على أولئك الذين يُنكرون فضل الحضارة العربية الإسلامية في نهضة أوربا الحديثة ..
و أقول (أثلجت صدري) لأن ما يزعجني حقيقة ليس إنكار علماء الغرب و المستشرقين لذلك الفضل ، فهذا دَيْدَنُهم ، إنما ما يحزنني حقيقة أن أرى الكثيرين من علماء و مثقفي العرب يرددون تلك المقولات و يشيعونها دون أدنى شعور بالغيرة تجاه هذا التراث العريق ..حتى إنهم ساروا وراء أولئك المستمرين من علماء الغرب في إطلاق التسمية التي حبذوها: (العصور الوسطى) ..
و أعتقد أن هذا الإنتباه
و تلك الدقة العلمية من الدكتور عوض الغباري كان أهم مبدأ علمي في بناء هذا الكتاب .. فقد أظهر من خلاله القيمة الأدبية و الفكرية في تلك العصور على غير السائد بين الناس عن ازدها الفكر و الأدب و كثير من الفنون في هذه العصور ..
(5) و الإضاءة الثالثة : بدت من خلال المنهج الذي اتّبَعه في دراسة الأدب المصري ؛ حيث إنه اختار ثلاثة من أعلام و رواد الباحثين في الأدب المصري ليعرض لنا دراساتهم ، و هم : الشيخ أمين الخولي ، و الأستاذ الدكتور حسين نصار ،
و عبد اللطيف حمزة ..
و هؤلاء الرواد ترجع أهميتها إلى أنهم من أهم و أبرز من درسوا الأدب المصري و ألَّفوا فيه .
* فالشيخ أمين الخولي عُرِف بأنه من أبرز الأدباء المصريين ، و عُرف بأنه من أبرز حُماة العربية ، و هو من رواد المنهج التنويري في دراسة التراث العربي .
* و الأستاذ الدكتور حسين نصار من أبرز المؤلفين
و المحققين لكُتُب التراث العربي ، و له مؤلفات كثيرة في الأدب العربي عموما و المصري خصوصا ، كما أنه قام بتحقيق ديوان ابن وكيع التنيسي ، أبرز الشعراء المصريين ، في القرن الرابع الهجري .
* و عبد اللطيف حمزة صاحب المؤلفات الرصينة في الأدب المصري مثل : أدب الحروب الصليبية ،
و الأدب المصري من قيام الدولة الأيوبية إلى مجئ الحملة الفرنسية ، و كتاب الحركة الفكرية في مصر في العصر الأيوبي و المملوكي ، و غير ذلك كثير ..
هؤلاء هم أبرز و أهم من درسوا الأدب المصري و ألّفوا فيه ، و قد نهل الأستاذ الدكتور عوض من علمهم حتى يُضيف إلى دراسات الأدب المصري هذا الكتاب الثري في تاريخ الأدب
و تحليل شعر رواد الشعر في مصر ..
(6) و الإضاءة الرابعة : تتمثل في اهتمامه برصد أثر الحضارات المختلفة في تكوين الشخصية المصرية منذ الحضارة المصرية القديمة (الفرعونية) ، ثم القبطية ، ثم العربية و الإسلامية ..
* و قد اهتم المؤلف برصد مبدأ الوجدانية في العقيدة الذي كان له تأثير كبير منذ عصر ( إخناتون) ، و لم ينْسَ أن يسجل أن الشخصية المصرية مُتدينة طبعا فقال :".. و الشخصية المصرية متدينة بطبعها من أثر طبيعة المجتمع الزراعي الذي شهد في مصر الصلوات و الدعوات منذ العصور القديمة رجاء من الله أن ينزل المطر ليكبر الزرع
و يعم الخير . و قد جسّد المصريون القدماء هذه الروح الدينية على جدران المعابد .." ص 13 .
* كما تحدث أيضا عن عن اعتدال الشخصية المصرية و تأثير بيئتة مصر و جغرافيتها في تكوين الشخصية ، فقال :" و المصريون أميل إلى وسطية الإسلام و اعتقاله ، و لا شك أن للبيئة المصرية - بموقعها الجغرافي المعتدل - أثرا كبيرا في تشكيل الشخصية المصرية لمواجهة المعتدل غير المتطرف .. " ص 15 .
* و كذلك حرص الدكتور عوض أن يُبرز الأثر الجغرافي المتعلق بوجود نهر النيل في تكوين الشخصية المصرية ، فوقف على أثر نهر النيل في ثقافة العطاء
و البقاء لدى المصريين ، فقال :" إن ثقافة العطاء
و البقاء التي وهبها النيل أبناءه المصريين جعلتهم يرتبطون بوطنهم و يحبون مصر بطرائقهم المختلفة بعملهم و إنجازاتهم في مختلف العلوم و الفنون
و الٱداب ليكونوا أهلا لحب هذا الوطن ، و شرف الانتماء إليه " ص 13 .
(7) أما الإضاءة الخامسة : فتتعلق بتناوله لشخصية مصر الأدبية ، و هذا طبيعي ، فالكتاب كله جاء من أجل إبراز شخصية مصر الأدبية . و قد وقف على أبرز الأغراض الشعرية التي تخصص فيها الشعراء المصريون ، مثل : (الغزل) : الذي يدل على أن "الأدب المصري يتسم بالرقة و السلاسة و العذوبة ، و الغل فيه هو الغزل الوجداني ،
و طريقه هو الطريق الغرامي . و قد شدت (أم كلثوم ) من أبدع الغزل في الشعر المصري قصيدة (ابن النبيه المصري) التي قال فيها :
أفديه إن حفظ الهوى أو ضيَّعا * مَلَكَ الفؤادَ فما عسى أن أصنعا ص16,17
*و لم ينس أن يقرر لنا أن "معجم الغزل في الأدب المصري سهل سلس يكاد يقترب من لغة الناس في حياتهم اليومية .. " ص 16 ، 17 ، و هذا بالطبع يقربنا كثيرا من مواصفات واقعية الشعر المرتبط بحياة الناس .
* و كذلك أوضح لنا كيف انتشر (شعر التصوف العربي) الذي أبدع فيها بن الفارض في الحب الإلهي ، و فاض عشقا للذات الإلهية ..
* كما انتشر (فن المديح النبوي) "الذي تأثر به الشعراء إلى العصر الحديث في مثل قصيدة أحمد شوقي :
ريم على القاع بين البان
و العلَم ** أحلَّ سفك دمي في الأشهر الحرم
تأثرا ببُردة البوصيري المباركة :
أ من تذكٌُ جيران بذي سلم * مزجْتَ دمعًا جرى من مُقلة بدم ص 18
* كما شرح لنا الدكتور عوض الغباري كيف واكب الأدب المصري لأحداث ال تاريخ يا ة الجسيمة التي مرت بمصر
و أهمها : الحروب الصليبية .. و حول هذه الحروب كتب أدباءُ مصر
و الشام ديوان حافلا مواكبا للحروب الصليبية أُطلق عليه ديوان (القُدسيات) ، و هو ليس شعرًا فقط ، و إنما هو شعر و نثر لأدباء كثيرين عاصروا الحروب الصليبية ، و سجلوا نبض انتصاراتها
و انكساراتها في قرون عدة. و كان صلاح الدين الأيوبي بطل حطين القُطب الذي دار حوله هذا الأدب ، و كانت شخصيته عسكرية و إنسانية من العبقرية و العظمة بمكان" . ص 19 . و قد تناول الشعراء شخصية صلاح الدين الأيوبي (بالمديح)
و كان من أبرزهم ابن سناء المُلك أكبر شاعر مصري في العصر الأيوبي .. ص 20
* و قد شرح لنا كيف "أججت الحروب الصليبية مشاعر الأدباء المصريين الذين عبَّروا - بقوة - عن التحام الأدب بالتاريخ المصري . و كانت بطولة صلاح الدين مُلهِمة لهؤلاء الأدباء الذين صوٌروا في أيديهم ملحمته الفروسية في جهاده المقدس ضد الصليبيين . " ص20 . و كان هذا هو سبب انتشار الشعر الحماسي الذي سيطر على ساحة الشعر المصري و غلب على الشعراء المصريين .
(8) و الإضاءة السادسة : تتعلق باختيار الدكتور عوض الشعراء و الأدباء الذين يُعَدّون علامات بارزة في تاريخ الأدب المصري ، و كان مُبْدعًا في تحليل نصوصهم
و شعرهم .
* و نستطيع أن نجد هذا واضحًا جدا في اختياراته لشعر (ابن وكيع التنيسي) الذي أطلق عليه (شاعر الزهر) و قد حلَّل لنا من شعره الكثير الذي أسهم به في شعر الطبيعة ، يقول الدكتور عوض عنه :"
و زهريات ابن وكيع دالة على افتتاحه بالطبيعة التي عاين مطالبها في (تنيس) موطنه .. و قد فُتِنَ ابنُ وكيع بالربيع خاصة ، و صَوّرهُ تصويرًا رائعًا في قصيدته الطويلة - الفصول الأربعة .." ص 37 ، 38 .
و ابن تنيس لم يقتصر إبداعُه على الشعر فقط ، "بلشارك في كثير من العلوم كالنقد
و البلاغة ، فقد ألّفَ ابن وكيع التنيسي كتابا بعنوان (المُنصف في نقد الشعر
و بيان سَرِقات المُتنبّي) ..
ص 43 .
* كما نستطيع أن نرى ذلك أيضا في كل ما عرضه لنا من شعر (ابن سناء المُلك) أكبر شاعر مصري في العصر الأيوبي ، و أكثر الذين مدحوا صلاح الدين الأيوبي
و وصفوا انتصاراته . .
* و كذلك نجد هذا في اختيارات المؤلف من شعر (ابن الفارض) شاعر الحب الإلهي و رائد شعر التصوف الإسلامي .
كان الدكتور عوض الغباري مبدعا في اختياراته لنصوص شعر ابن الفارض ، أكبر شاعر مصري صوفي ، و يقول عنه : " و أراني أقف أمام شعر ابن الفارض على شاطئ بحر محيط حائرا حيرة ابن الفارض في تعبيره عن الحب الإلهي و إحساسه بالقصور في هذا التعبير ، و قد ضاق المقالُ عن وصف الحال كما قال الصوفية . و ما أُقدمه عن عمر ابن الفارض - هنا - غيض من فيض معانيه الصوفية ، و مواجده الإيمانية في شعره الصوفي الرائع " ص 135 .
(9) أما الإضاءة السابعة : فتتعلّق بالفصل الحادي عشر من الكتاب الذي خصّصهُ لتناوُل فن الزجل الذي أبدعَ فيه الشعراء المصريون ،
و تناول فيه المؤلف أزجال (الشيخ خلف الغُباري) .. الذي صرح أنه يناسب إليه .
و قال عنه : "إنه أكبر وحال مصري ، عاش في القرن الثامن الهجري - الرابع عشر الميلادي ..
و الجميل في هذا الفصل أن المؤلف قام بمهمة ممَيَّزة عما قام به في بقية فصول الكتاب ؛ حيث إنه حكى لنا كيف أنه قام بجميع أزجال هذا الشاعر الذي فُقِدَ ديوانُه من التراث المصري قديما
و حديثا .
و يقول الدكتور عوض إنه استطاع أن يجمع حوالي خمسُمائة بيتٍ من أزجال الشيخ خلف الغباري ، و قال إنه عرض لنا الكثير منها
و حلل معانيه . كما قال إنه كان قد تناول هذه الأبيات بدراسة نقدية مُنفصلة نشرها سابقا ..
* و يقول عنه : " و كان الغُباري متوافقا مع نفسه ، متجاوبا مع فنه ، أصيل التعبير عنه ، جميل الإيحاء به ، صادق التجسيد بأبعادها الثقافية و الحضارية المرتبطة بالحياة المصرية " . ص186 .
* كما قال عنه إن خبرته بالحياة و حكمته ظهرت واضحة في أزجاله و جسّدَتْ أصالة روحه المصرية ..
و قال إن أزجال الشيخ خلف الغباري كانت المُطوّلات ،
و هذا دال على قدرته الفنية الكبيرة . .
* أما عن استخدامه لفنون البيان و البديع فقد قال عنه إنه " يجعل الاوريو أساسا لصُوَرِه الأدبية شأنَ الأدباء المصريين الذين تغلب على أيديهم الاوريو . مُميزة الأدب المصري على الإطلاق .."
ص 189 .
(10) و أخيرا أعجبني جدا كل ما تناوله في خاتمة الكتاب : فكانت وافية في ذاتها ، أجمل فيها قضايا الكتاب و عرض موضوعات فصوله مجملا ما ورد في كل منها بشكل لطيف .
و قد افتتحها بالحديث عن دعوة الشيخ أمين الخولي رائد دراسة الأدب المصري إلى منهج جديد يرى أثر مصر / عبقرية المكان في الأدب المصري بناء على منهجية علمية موضوعية .
و أكد على الشعار الذي رفعه أمين الخولي : أن "للبقاع تأثير في الطباع " ، كما أقر جمال حمدان في موسوعته العبقرية شخصية مصر ؛ دراسة في عبقرية المكان ، أن موقع مصر الجغرافي باعتقاله له أثر عظيم في تشكيل الشخصية المصرية ، ثقافة و حضارة و علما و فنا
و أدبا " . ص 339 .
كما سجل أيضا ملاحظته عن تدين الشعب المصري و أن الأدب قد سجل ذلك .
و سجل أيضا أن الأدب المصري قد عكس جانبا ٱخر من جوانب الشخصية المصرية ، بتميز شعرائها "في الغزل كابن النبيه المصري
و البهاء زهير ، و ابن سناء المُلك و غيرهم . " من كما قال إن " غزل شعراء مصر عذب عذوبة ماء النيل ، فمن عذبت مياه شربهم لطفت كلمات شفاههم".. ص 340 .
(11) و في النهاية أقول إن هذا الكتاب هام جدا لأنه يمثل في قيمته جسرا كبيرا في طريق إرساء قواعد دراسة الأدب المصري و نصوصه . كما إنه يرد الاعتبار للثقافة و الحضارة العربية و الإسلامية التي أراد المُغرضون أن يسلبوها حقها و ينكروا فضلها و دورها في نهضة العلم و الحضارة في أوروبا في العصر الحديث .
في النهاية أقدم تهاني للأستاذ الدكتور عوض الغباري على صدور هذا الكتاب القيم و الثري ،
و أتمنى له دوام التوفيق
و الرفعة .
# أميمة فيصل مرسي / أستاذ مساعد البلاغة و النقد الأدبي بأكاديمية الفنون