الثلاثاء 6 مايو 2025 01:31 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

خالد درة يكتب: أقول…( مصر و البحر الأحمر : بين التنافس الجيوسياسي و التداعيات الاقتصادية )

الكاتب الكبير خالد درة
الكاتب الكبير خالد درة

منذ أن بدأت الحرب الإسرائيلية على غزة جراء هجوم السابع من أكتوبر عام 2023 على إسرائيل و حتى اليوم ، و دخول الحوثيين في هذا الصراع تضامناً مع أهل غزة و المقاومة الفلسطينية و سيطرتها على منافذ دخول السفن الدولية فى البحر الأحمر مما دفع و الأساطيل العسكرية الأمريكية إلى التمركز في البحر الأحمر .. لطالما شكّلت هذه الممرات البحرية محاور صراع بين القوى العظمى ، إذ إن البحر الأحمر يُعد اليوم من أخطر بؤر التنافس الجيوسياسي ، كونه يربط بين المحيط الهندي و البحر المتوسط ، و يمنح الدول المطلة عليه موقعاً استراتيجياً يتحكم بحركة التجارة العالمية ، ولا سيما منها تجارة النفط و الطاقة ..

فما يجري في البحر الأحمر اليوم ليس مجرد انتشار عسكري ، بل هو إعادة رسم لخرائط النفوذ الدولي ، إذ تتنافس الولايات المتحدة ، الصين ، روسيا ، و فرنسا على الحضور العسكري و الاقتصادي .. فالولايات المتحدة تركز على حماية مصالحها و تحالفاتها ، في حين تستخدم الصين مشروع"الحزام و الطريق" لتعزيز نفوذها ، و تعيد روسيا موطئ قدم لها في السودان ، بينما تسعى فرنسا إلى تأمين خطوط الملاحة ..

في هذا الإطار ، تُعَد جيبوتي نقطة ارتكاز استراتيجية بسبب موقعها عند مدخل البحر الأحمر ، إذ تستضيف قواعد عسكرية للقوى الكبرى ، منها الولايات المتحدة ، الصين ، فرنسا ، و اليابان .. حيث تُبرز جيبوتي كمركز لوجستي ، ما يجعل السيطرة عليها ضرورية للقوى المتنافسة رغم التوترات المتزايدة ..

و السودان بدوره أصبح ساحة صراع بين أميركا و روسيا ، إذ وافق على إقامة قاعدة روسية في بورتو سودان ، و هو ما اعتبرته واشنطن تحدياً كبيراً لمصالحها .. فروسيا استغلت اضطرابات السودان لتعزيز وجودها من دون شروط ، مما قد يدفع الولايات المتحدة إلى تكثيف الضغط الاقتصادي والتعاون الأمني مع دول مجاورة ..

و الحوثيون كذلك أصبحوا لاعباً غير تقليدي ، إذ تستهدف هجماتهم السفن المرتبطة بأميركا و إسرائيل ، في سياق "حروب الوكلاء" الإيرانية .. فهذه الهجمات تُستخدم لتبرير الوجود العسكري المتزايد في المنطقة ، على غرار التدخل الأميركي في "حرب الناقلات" إبان الثمانينات ..

أما إريتريا ، فرغم صغر حجمها ، تلعب دوراً بارزاً من خلال استضافة قاعدة إماراتية في ميناء عصب .. فهي تتبع سياسة براجماتية ، و تعقد شراكات من دون انحياز ..

و مصر تدير توازنها بين القوى الكبرى بعلاقات أمنية مع واشنطن وتعاون عسكري مع موسكو ، و تحافظ على استقرار قناة السويس ممراً حيوياً ..
فالتوترات في البحر الأحمر أثرت على التجارة العالمية ، إذ أدت هجمات الحوثيين إلى ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين .. مما أدى إلى شركات كبرى مثل "ميرسك" و"هاباج لويد" غيّرت مساراتها إلى رأس الرجاء الصالح ، مما زاد من تكاليف النقل و مدته أيضاً .. حيث ارتفع مؤشر نقل الحاويات من 1521 دولاراً في ديسمبر 2023 إلى 3777 دولاراً في يناير 2024 ، و ارتفعت أقساط التأمين من 0.6 % إلى 2 % من قيمة البضائع ..
فهذا التحول أثّر على التجارة البحرية العالمية ، فانخفضت بنسبة 1.3 % بين نوفمبر و ديسمبر 2023 ، و غيّرت 30 % من سفن الحاويات مساراتها .. و تضررت اقتصادات كبرى ، منها الصين التي تمر 95 % من صادراتها عبر البحر الأحمر ، و الهند بنسبة 80%، ما جعلها عرضة لصدمات اقتصادية .. كذلك ارتفعت أسعار الطاقة و السلع ، وتوقف إنتاج شركات مثل "تيسلا" و "فولفو" في أوروبا ..

حيث تعد المضائق البحرية مثل باب المندب وقناة السويس تُعد شرايين أساسية للاقتصاد العالمي ، و قد أثّرت التوترات على حركة الملاحة ..فقد أُغلق باب المندب في أزمات سابقة كورقة ضغط ، و تراجعت حركة العبور في قناة السويس بنسبة 50% ، ما خفّض إيراداتها 7 مليارات دولار عام 2024 و قدمت مصر حوافز للحفاظ على موقعها كممر تجاري عالمي ، لكن التوترات رفعت تكاليف السلع وأثّرت على التضخم ..

أما مستقبل البحر الأحمر ، فيتراوح بين سيناريوهات عدة : أولًا ، تعاون إقليمي بين دول مثل مصر ﻭ السعودية قد يعزز الاستقرار و يزيد الإيرادات .. ثانياً ، استمرار التصعيد العسكري قد يزيد التكلفة على التجارة العالمية .. ثالثاً ، تسوية إقليمية بضغط اقتصادي قد تعيد الاستقرار .. رابعاً ، استمرار الصين في تعزيز نفوذها عبر استثمارات في الموانئ .. و خامساً ، بقاء الوضع كما هو عليه مع استمرار التأثير الاقتصادي من دون تصعيد عسكري كبير ..

ختاماً ، فيشكل البحر الأحمر نموذجاً معقداً لتقاطع المصالح الجيوسياسية و الاقتصادية .. و الانتشار العسكري فيه و المنافسة الاقتصادية يعكسان هشاشة التوازنات في المنطقة .. و في غياب تعاون إقليمي موحد ، يبقى البحر الأحمر ساحة تجاذبات دولية ، و مستقبله مرهون بقدرة الأطراف على تحويله إلى فضاء للتعاون لا للمواجهة .