السبت 28 يونيو 2025 12:54 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

دكتور علاء الحمزاوى يكتب : الهجــرة انطلاقة وبناء

دكتور علاء الحمزاوى
دكتور علاء الحمزاوى

ــ في عهد الخليفة عُـمَـر جاءه رجل بوصل أمانة يثبت له دَيْنا على رجل، موعده في شهر شعبان، وقد ماطل المدين في السداد بحُجّة أن الوصل لم يحدد أيّ شعبان؟ فكان ذلك داعيا لوضع تاريخ عربي يؤرخ به العرب أحداثهم ويوثقون به معاملاتهم، فاجتمع عمر بكبار الصحابة ودار نقاش بينهم انتهى بالموافقة على التأريخ بالهجرة، وفي ذلك إشارة إلى مشروعية الاحتفال بالهجرة النبوية؛ لأنها نقطة تحوّل بارزة في حياة البشرية وحــدّ فاصل بين ظلمات الكفر ونور الإيمان، كانت انطلاقة لنشر الإسلام عالميا وبناء دولة إسلامية كبرى ذات شوكة وقدرة فتحت العالم شرقا وغربا، وأقامت حضارة إسلامية ذات آفاق استمدت أُسُسَها من القرآن والسُّنة سادت العالم قرابة ثمانية قرون، وأفادت منها أوربا في حضارتها ومدنيتها الحديثة، ومع أن الهجرة تمت في ربيع الأول يبدأ العام الهجري بالمحرَّم؛ لأنه شهر الله، وكان العرب يحرِّمون القتال فيه، وهو مُنصرَف الحجيج من مكة، وفيه صيام عاشوراء تكريما لموسى.
ــ لكن هل وجود تاريخ هجري للمسلمين يمنع استعمال التاريخ الميلادي في الوقت الراهن؟ لا يمنع؛ لأن استعمال التاريخ من الأمور التي يتوافق عليها المجتمع، وهناك أمور مشتركة في العالم كالبنوك والطيران والملاحة والتجارة العالمية تعمل بالتاريخ الميلادي، والأهم أنه لم يرد نهي عن استعمال التاريخ الميلادي، بل إن القرآن أشار إليه في قوله: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ}، {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}، فلم يقل: (ثلاثمائة وتسعا)؛ ليبِّين لنا أن مدة نومهم في الكهف تُقدَّر بثلاثمائة سنة ميلادية، وهي ثلاثمائة وتسع هجرية، وفي ذلك إشارة إلى مشروعية استعمال التاريخين الميلادي والهجري، لكن استعمال التاريخ الهجري أفضل لقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} واقتداءً بالصحابة والتابعين.
ــ وجاءت الهجرة نتيجة دافعين كبيرين: الأول: شدة إيذاء المشركين للنبي والمسلمين، حتى قال الله له: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي أوشكوا أن يضطروك للخروج من مكة، فإذا فعلوا فلن يهنأوا بالسُكْنَى فيها بعدك، فأيقن النبي أنه مُخرَجٌ من مكة وأن المشركين لن يُعمِّروا فيها كثيرا بعد إخراجه، وأنه عائد إليها، وأكّد ربنا ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ}، والدافع الآخر: استعداد أهل المدينة لاستقبال الإسلام، حيث كان النبي في ظل أذى المشركين له حريصا على نشر دعوته، فكان يستثمر موسم الحج فيدعو الحجاج إلى الإسلام، فأسلم من أهل المدينة ستة في العام الحادي عشر من البعثة، وفي العام التالي أسلم اثنا عشر، وبايعهم النبي على الإسلام ونشره فيما سُمِّي "بيعة العقبة الأولى"، وفي العام التالي أسلم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، وبايعوا النبي على السمع والطاعة والدفاع عنه فيما سُمِّي "بيعة العقبة الثانية"، وشكّل النبي منهم أول "حكومة ائتلافية"، حيث اختاروا اثني عشرا رجلا من كبارهم، قائدهم النبي ودستورهم القرآن، وكانت تلك الحكومة نواة الدولة الإسلامية بالمدينة.
ــ وبذلك أصبحت المدينة مهيأة لاستقبال الإسلام، فسمح النبي للصحابة بالهجرة إلى المدينة، فهاجروا سرًّا تاركين ممتلكاتهم بما فيهم عُمر، فلم يهاجر جهرا؛ ليعطينا في حسن التصرف؛ فالكثرة تغلب الشجاعة، واستبقى النبي أبا بكر لصحبته في الهجرة؛ ليعطينا درسا قويا في الصداقة الخالصة، واستخلف عليًّا لتأدية الأمانات لأهلها ليعلمنا أن أداء الأمانة واجب ولو كان صاحبها كافرا، وقد أحاطت العناية الإلهية برسول الله، فحفظته من كل مكروه دبّره له المشركون، تحقيقا لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فحدثت معجزات في رحلة الهجرة النبوية، منها نقل الاجتماع الذي عقده المشركون في دار الندوة إلى رسول الله، وهو أخطر اجتماع برلماني في تاريخ العرب قبل الإسلام حول آلية التخلص من رسول الله، وطُرحت ثلاثة آراء: الحبس أو القتل أو الطرد، وانتهوا إلى قرار القتل بمباركة إبليس، ومنها معية الله له مع صاحبه في الغار، وكانت معية طمأنة لأبي بكر وتأييدا وحماية ونصرا للنبي، فالمعية أمن وأمان وقـوة وسلام، وهي منهج حياة للمسلم وللمجتمع ألا يخافوا ولا يحزنوا ولا ييأسوا ماداموا في معية الله، ومنها ما حدث مع سراقة، وقد وعده النبي بتاج كسرى! وتحقق وعده له في خلافة عُمَر 14هـ فكان ضمن الغنائم تاج كسرى، وألبسه عُمر إياه.
ــ وغادر النبي مكة في الثامن والعشرين من صفر، ووصل إلى قُباء في الثامن من ربيع الأول، فمكث بها أربعة أيام بنى فيها أول مسجد في الإسلام، وصفه ربنا بقوله: {لمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}، والصلاة في مسجد قُباء تعدل عمرة في الثواب، ثم توجّه النبي إلى المدينة، وقد استقبلوه استقبال الملوك فأكثر! كل منهم حريص أن يستضيفه، لكن النبي لم يميِّز أحدا على أحد في إشارة إلى نشر العدل في العلاقات والمعاملات بين الناس، ولما استقر النبي شرع في بناء الدولة، فبدأ بالمسجد ثم التآخي بين المهاجرين والأنصار ثم الصحيفة المدنية لتكون أول دستور مدني في التاريخ ثم الشروع في البيعات ثم تشريع الجهاد لبناء جيش قوي، وبذلك تحققت في المدينة مقوِّمات بناء الدولة بالمفهوم الحديث؛ لأن الدولة تقتضي أرضا وشعبا ودستورا وجيشا وحكومة، وهذا ما توافر في المدينة المنورة.
ــ ومع أن القرآن حفظ اسم (يثرب) في قوله: {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} سمَّاها النبي المدينة، ونهى عن استعمال "يثرب"، فقال: "منْ سَمَّى المدينةَ يثربَ فليستغفرِ اللهَ، هي طابةُ"؛ ليستهل بناء دولة جديدة باسم جديد مرتبط به في إشارة إلى محو ماض باطل وإثبات حـق قادم، وأضفى على المدينة خصوصية، فجعلها حرما آمنا، ودعا لها بالبركة في الرزق ضِعفي ما دعا سيدنا إبراهيم لمكة، وجعل فيها قطعة من الجنة، فقال: "ما بيْنَ بَيْتي ومِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الجَنَّةِ، ومِنْبَرِي علَى حَوْضِي"، وميّز النبي موتى المدينة عن غيرهم؛ ما جعل عمر يقول: "اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً في سَبيلِكَ، واجْعَلْ مَوْتي في بَلَدِ رَسولِكَ"، ومن وقتئذ صارت المدينة عاصمة للدولة الإسلامية الفتية مدة حكم النبي وخلفائه الراشدين، ومنها سطعت الحضارة الإسلامية؛ فكانت الهجرة انطلاقة لبداية جديدة وأمـل جديد، فهل تستفيد الأمة من حادث الهجرة لتغيير واقعها إلى مستقبل أفضل كما فعل النبي ؟!

دكتور علاء الحمزاوى مقالات الدكتور علاء الحمزاوى الهجــرة انطلاقة وبناء الجارديان المصرية