الخميس 25 سبتمبر 2025 10:00 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب: تسونامي سياسي يربك الصهاينة.. الاعترافات الدولية بفلسطين

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

منذ عام 1947، حين أصدرت الأمم المتحدة قرار التقسيم رقم 181، الذي نصّ على إقامة دولتين على أرض فلسطين، بدأت القصة الكبرى للشرعية الدولية تتشكل. يومها اعترفت القوى الغربية بسرعة بالدولة اليهودية الوليدة، بينما تركت الدولة الفلسطينية حبرًا على ورق. ومنذ ذلك التاريخ، أخذت القضية الفلسطينية تتأرجح بين القرارات الدولية التي تمنحها الحق، والفيتو الأمريكي الذي يجهض أي مسار يمكن أن يقود إلى استقلالها الفعلي. ومع ذلك، ظل الفلسطينيون صامدين، يرفعون راية الحق، حتى بدأت السنوات الأخيرة تشهد تحولات كبرى يمكن وصفها بأنها "تسونامي سياسي" يضرب أركان المشروع الصهيوني.

منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ومع صعود حركات التحرر في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وجدت فلسطين سندًا طبيعيًا في تلك الشعوب التي عانت مثلها من الاستعمار والاضطهاد. فبدأت دول عديدة تعلن دعمها لحق الفلسطينيين في تقرير المصير. ثم جاء عام 1974 ليمثل نقطة فاصلة حين حصلت منظمة التحرير الفلسطينية على صفة "مراقب" في الأمم المتحدة، وارتفع علم فلسطين للمرة الأولى في قاعة الجمعية العامة. بعد ذلك بعشر سنوات، وفي 1988، أعلن المجلس الوطني الفلسطيني قيام دولة فلسطين، فاعترفت بها أكثر من مئة دولة على الفور، وكان ذلك أشبه بانتفاضة دبلوماسية أربكت الاحتلال.

لكن منذ اللحظة الأولى، تصدت الولايات المتحدة لكل محاولة فلسطينية لنيل العضوية الكاملة في الأمم المتحدة أو الحصول على قرارات ملزمة. فقد استخدمت واشنطن حق النقض أكثر من أربعين مرة لمنع قرارات تدين الاحتلال أو تطالب بإنهائه أو تعترف بحق الفلسطينيين في السيادة. هذا الفيتو تحوّل إلى جدار عازل يحمي الكيان من أي مساءلة قانونية أو سياسية، حتى صار رمزًا للنفاق الدولي: يتحدثون عن حقوق الإنسان ويمارسون أبشع صور الانحياز. إلا أن الفيتو لم يعد اليوم قادرًا على منع الحقيقة من الظهور. فالمشهد العالمي تغيّر. لم يعد الأمر محصورًا داخل مجلس الأمن، بل امتد إلى البرلمانات الوطنية، والمنظمات الشعبية، والمؤسسات الدولية التي صارت تُصدر قرارات داعمة لفلسطين رغم اعتراض واشنطن وتل أبيب.

في أوروبا، اعترفت السويد رسميًا بدولة فلسطين عام 2014، ثم تبعتها موجة من التصويتات الرمزية في برلمانات بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإيرلندا، وكلها حملت رسالة واضحة بأن الرأي العام الأوروبي يميل نحو فلسطين، حتى وإن ترددت الحكومات. هذه الخطوات أربكت الكيان الصهيوني الذي طالما اعتبر أوروبا حديقته الخلفية. أما في أمريكا اللاتينية، فقد اتخذت عدة دول قرارات أكثر جرأة، مثل البرازيل والأرجنتين وتشيلي وفنزويلا وبوليفيا، التي اعترفت رسميًا بفلسطين وفتحت أبوابها للدبلوماسية الفلسطينية، بل وذهبت بعض هذه الدول إلى حد قطع العلاقات مع "إسرائيل" احتجاجًا على مجازر غزة. إفريقيا بدورها، التي تعرف جيدًا معنى الاحتلال والتمييز العنصري، وجدت في فلسطين مرآة لذاتها. لذلك لم يكن غريبًا أن يعلو صوتها في المحافل الدولية داعمًا للحق الفلسطيني، رغم محاولات الكيان الصهيوني التغلغل اقتصاديًا وسياسيًا في القارة.

وفي آسيا، حيث القوى الصاعدة كالصين والهند، يبرز موقف يتأرجح بين الحسابات الإستراتيجية والدعم التاريخي للقضية الفلسطينية. الصين، على سبيل المثال، تؤكد دعمها لحق الفلسطينيين وتستضيف مؤتمرات دولية من أجلهم. أما دول مثل ماليزيا وإندونيسيا فمواقفها ثابتة وقوية ضد الاحتلال. ومع ذلك، يظل الضغط الشعبي في هذه الدول عاملًا حاسمًا يدفع الحكومات إلى التمسك بموقف مؤيد لفلسطين.

الكيان الصهيوني يرى في كل اعتراف دولي قنبلة سياسية تفجّر سرديته الزائفة التي تقول إن "إسرائيل" وحدها صاحبة الشرعية. لذلك فهو يصف هذه الاعترافات بأنها "مؤامرة لنزع الشرعية"، ويشن حملات ضغط وتهديد على الدول التي تقدم عليها. الولايات المتحدة من جانبها لا تتردد في وصف هذه الخطوات بأنها "أحادية الجانب" تهدد عملية السلام. لكن أي سلام هذا الذي يتحدثون عنه بينما الأرض تُسلب والشعب يُذبح يوميًا؟

التحولات الراهنة تشبه إلى حد بعيد عزلة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا قبل انهياره. العالم صمت طويلًا أمام جرائم بريتوريا، ثم فجأة تبدّل الموقف، وصار النظام العنصري منبوذًا حتى سقط. واليوم، يبدو الكيان الصهيوني في مسار مشابه: كلما توسعت الاعترافات بفلسطين، ضاقت عليه الدائرة، حتى وإن حاول التمسك بسطوة السلاح والدعم الأمريكي.

إن التسونامي السياسي الذي نشهده اليوم ليس مجرد موجة عابرة من التعاطف، بل هو إعادة تشكيل لموازين القوى الأخلاقية والسياسية على الساحة الدولية. لقد أصبح العالم أكثر وعيًا بأن القضية الفلسطينية ليست نزاعًا محليًا، بل اختبارًا لضمير البشرية كله. الاعتراضات الصهيونية والأمريكية، مهما كانت صاخبة، لم تعد قادرة على حجب الشمس. بل على العكس، كلما اشتد صراخهم، ازداد العالم اقتناعًا بأن هناك ظلمًا فادحًا يُراد التغطية عليه. الاعتراف بفلسطين اليوم يحمل دلالات أبعد من مجرد تسجيل سياسي، إنه تعبير عن بداية مرحلة جديدة يخرج فيها العالم من صمته الطويل، ليقول بصوت واحد إن الشعب الفلسطيني يستحق الحياة والحرية والدولة المستقلة.

إن هذه الاعترافات، رغم ما يواجهها من اعتراضات، تؤكد أن عزلة الكيان الصهيوني باتت تتوسع، وأن الغطاء الأمريكي لم يعد كافيًا لحجب الحقيقة. إن فلسطين لم تعد مجرد قضية تخص العرب أو المسلمين وحدهم، بل تحولت إلى قضية إنسانية كبرى تتبناها الشعوب من مختلف الديانات والأعراق. كل دولة تعترف بفلسطين تضيف لبنة جديدة في جدار الشرعية الدولية، وتجعل الاحتلال أكثر هشاشة، وتبعث برسالة إلى العالم أن الحق لا يموت بالتقادم.

اليوم، يمكن القول إن المستقبل بات مفتوحًا على معادلة جديدة، فيها الشعوب أوعى من الحكومات، والحق أقوى من الباطل مهما طالت رحلة الصراع. إن الاعتراف بفلسطين صار عنوانًا لميلاد ضمير عالمي جديد، يضع نهاية لزمن النفاق ويكتب بداية زمن العدالة. وهذا ما يرعب الصهاينة وحلفاءهم، لأنهم يعلمون أن فجر فلسطين قادم، وأن كل اعتراف جديد يقرب ساعة الحقيقة، ويثبت للعالم أن الاحتلال مهما تجبر فلن يدوم، وأن إرادة الشعوب لا تُهزم، وأن فلسطين ستظل بوصلة الحرية ورمزها الخالد.

حسين السمنودى تسونامي سياسي يربك الصهاينة.. الجارديان المصرية الاعترافات الدولية بفلسطين