السبت 27 أبريل 2024 12:42 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الدكتور حمدى الجابرى يكتب : مسلسل الاختيار .. ضوء بعيد في نفق الدراما التليفزيونية المظلم

الدكتور حمدى الجابرى
الدكتور حمدى الجابرى


-1-
بعد هزيمة 67 انتظرنا طويلا ظهور الأعمال الدرامية (مسرح - سينما- تليفزيون) التي تجسد معاناة شعب مصر وتشد أزره بعد تجرعه مرارة الهزيمة وبالفعل ظهرت بعض الأعمال التي لم تصل الى سمو المشاعر والأحاسيس المؤلمة والتي لا تجسد إلا بعض ملامح صبر وصمود هذا الشعب الأبى الصابر على المكاره رغم الأحداث الجسام التي مر ويمر بها وكان العذر دائما أنه لابد من مرور فترة زمنية كافية حتى يتم استيعاب الأمور ثم يأتي التعبير عنها وتجسيدها في أعمال فنية .. محترمة .. وهو مالم يتحقق لأنها تُركت للإجتهاد الشخصى ولم تكن تعتمد على خطة منهجية محددة المعالم والوسائل والأهداف .. ولذلك عادة سرعان ما كان يتم شبه نسيان هذه الأمور .. إبداعيا .. لتعود ريمة لعادتها القديمة.. رقص وأجساد شبه عارية وتلميحات بعضها بالغ الفجاجة وأغنيات ونكات و.. تلقيحات درامية .. وموسم صيفى وآخر شتوى سرعان ما انتهى الى مهرجانات معظمها - ولو بحسن نية - مشبوه الأغراض والوسائل ومع ذلك عجزت عن مقاومته أو ترشيده كل الحكومات .. ورغم ذلك لم يفقد الناس الأمل في فن يجسد معاناتهم ولا يقل عن أملهم في مستقبل أفضل في وطن آمن مستقر .. لأسباب لا علاقة للفن والابداع بها ولكن لأن الناس في مصر تتوارث خبرات كثيرة يجسدها المثل القائل .. ياما دقت على الراس طبول .. وأعداء وخونة وعملاء ودول وجيوش .. منذ فجر التاريخ وحتى الأمس واليوم وغدا ..
ومع ذلك لابد من تذكر عدم إنفصال الفنان عن قضايا وطنه وهمومه ومحاولاته الدائمة المساهمة في مناقشتها وتحليلها وعرضها بهدف التغلب عليها حتى ولو كان ذلك مؤلما بسبب العجز وسوء الحال مثل صرخة سعد الدين وهبة في مسرحية المسامير في أعقاب الهزيمة وسط دموع وألم الجمهورفى جنبات مسرح الحكيم الذى ضاع : (إضرب ياعبد الله) .. وكان سبب الدموع والألم هو إدراك الجميع أن عبد الله لم يعد لديه ما يضرب به ! والحقيقة أيضا أن الألم والدموع والأمل في المستقبل قد أدى حتى بعلى سالم نفسه الى كتابة (أغنية على الممر) قبل تحوله المرضى الذى لم يقنع أحدا وانتهى الى ضياعه ككاتب مسرح بعد فترة طويلة من الضجيج والهلفطة السياسية فاقدة القيمة والمعنى والجدوى..
.. و.. لم يكن الحال في الدراما التليفزيونية مختلفا بل ازداد الأمر سوءا خصوصا بعد موت قطاع الإنتاج وصوت القاهرة بل ووزارة الاعلام نفسها بعد طول تخبط بين الوعود والأمانى والريادة الإعلامية والدراما الاجتماعية المفتعلة أحداثها بشخصياتها المنحطة ومفرداتها السوقية المبتذلة التي تم انتاجها وترويجها بدعوى تمثيلها للواقع دون أن يجرؤ أحد على المجاهرة بأنها هي التي ربما تكون قد قادت هذا الواقع الى ماهو عليه الآن من سوء ، ولم يختلف الأمر مع الأغنيات التي يرفع أصحابها الشعارات الوطنية وإختصارها في تمجيد الحاكم الذى شجعها وربما يكون قد صدقها قبل أن يفيق على صدمة الثورة عليه .. وهى نفس الصدمة التي لم يفق منها بعد المبدع الغافل ومدعى الإبداع .. نهاز الفرص .. في كل وقت وحين ..
الأهم هنا هو أن فائدة الدراما التليفزيونية وكذلك خطرها أكبر كثيرا من بقية فنون العرض رغم أهميتها جميعا .. والسبب هو وصول المسلسل التليفزيونى الى عشرات الملايين ان لم يكن الى مئات الملايين داخل وخارج مصر في نفس وقت اذاعته وعلى العكس الأفلام والمسرحيات والمهرجانات .. ومع مثل هذا الحال تصبح المؤتمرات واللقاءات والندوات والمطبوعات عاجزة عن تحقيق الهدف منها حينا بعد أن تكون المسلسلات قد أفرزت أفكارها وبعضها مسموم ومذموم وحينا آخر لعدم معرفة الشعب أساسا بوجودها .. لحسن الحظ ..
لكل ذلك لابد من التوقف أمام ضوء بعيد في نفق الدراما التليفزيونية المظلم .. مسلسل الاختيار ..
-2-
أكبر وأول وأهم كتاب المسرح اليوناني اسمه اسخيلوس شكل مع لاحقيه سوفوكليس ويوريبيديس ملامح الدراما وعناصر العرض المسرحى وهو ما سجله التاريخ وشرحه المعلم الأول (ارسطو) .. ليس في اليونان القديمة وحدها بل في العالم كله وحتى اليوم ولو كان ذلك من خلال محاكاتهم جميعا أوالتنويع على أعمالهم أو حتى الاعتراض على ماقدموه من روائع مسرحية وقضايا نقدية .. وكذلك لا يوجد من له علاقة بالفنون والمسرح في العالم لا يعلم أن اسخيلوس هو من أدخل الممثل الثانى بعد الممثل الأول (ثسبس) وبذلك انتقل الفن المسرحى من المرحلة الغنائية الى أخرى عاش ويعيش العالم في ظلها حتى اليوم وأنه من طور المسرح اليوناني من الرقص والغناء في الطريق الى الأوركسترا وعليه الى تجسيد الصراع الدرامى من خلال شخصيات في حالة فعل أي تشابك أي صدام يبرز قيم ومعتقدات وفضائل تنتهى المسرحيات الى تأكيدها بعد تجسيد معاناة أصحابها ونتائج الخروج عليها .. بكل عناصرها المدمرة للإنسان والحياة والمجتمع .. و.. الأهم هو أن صاحب كل هذا الإنجاز الثقافي المشرف قد تنازل عنه كله بمحض إرادته عندما اختار أن تكون الكتابة الوحيدة على قبرة هي مساهمته في ميادين الشرف الحربية عبر مشاركته العملية كمقاتل في معركتى ماراثون وسلاميس .. أي لم يكفه التأليف والتمثيل والإخراج والجوائز الكبرى ودفاعه عن القيم والفضائل والدين وفضل عليها جميعا صفته .. كمحارب دافع عن وطنه ضد خطر الأعداء ..
-3-
تذكر المراجع أسماء كتاب مسرح كثر قبل اسخيلوس ضاعت أعمالهم ومنهم فرينيخوس الذى قدم مسرحية سقوط ميليتوس بكل مصائب معاناة أهل المدينة من الغزو الخارجي وتقاعس الحلفاء عن نجدتها وضاعف الألم انهيار المسرح نفسه بالجمهور الكبير الذى كاد يفتك بالمؤلف بعد أن كشف له حقيقة ضياع جزء عزيز من الوطن وأهله والباقى .. يتفرج .. واستفاد اسخيلوس من هذا الدرس تماما وقدم مسرحية تتناول نفس الموضوع أي خطر الغزو الخارجي على الوطن وفظائع الغزاة بعنوان .. الفرس .. وفيها بدلا من الإكتفاء مثل فرينيخوس بعرض الهزيمة وسقوط ميليتوس والفظائع التي إرتكبها الغزاة إختار اسخيلوس عرض قوة الجيش المعادى وقاتده وبالذات إدعاء وغرور قائده اكسركسيس ابن داريوس وإمكانيات الغزاة الكبيرة والإنتصار عليهم ودحرهم ونحيب أمه الملكة أتوسا وهو ما يثبت أن المغالاة في ذكر نتائج الهزيمة وحدها على المقاوم المؤمن بوطنه دون العمل على تلافى أسبابها لابد أن يكون مدمرا بجانب أهمية الدفاع عن الوطن مهما كانت قوة الأعداء غاشمة ومتجبرة ومسلحة .. وبالتأكيد شعر الشعب بالفخر والعزة والقوة مادام قد انتصر على أعداء حرص اسخيلوس على عرض وإبراز وتأكيد تفاصيل قوتهم وملوكهم وأعدادهم وعتادهم واستعداداتهم الكبيرة .. وبالتالي انتصر من هم أفضل منهم بسبب ايمانهم بعدالة قضيتهم ..
وبالطبع في زمن اسخيلوس لم تكن قد ظهرت بعد النظريات والمصطلحات والمسميات التي منها المسرح التسجيلى أو الوثائقى أو الكلاسيكى أو الرومانسى وغيرها ، فهل كان اسخيلوس يهدف الى تقديم عمل وثائقى ؟ أظن أن الإجابة لابد أن تتجاوز ذلك الى أهداف أبعد وأكبر وأهم أصغرها إستدرار دموع شعب ذاق مرارة الهزيمة وفقدان الأهل والأرض وأكبرها تحقيق أكبر قدر من الإستنارة والوعى بالمخاطر المحيطة بهما .. الأرض والأهل – وكذلك إيقاظ كل مشاعر حب الوطن وإعلاء قدره وقدرته على التصدي ومقاومة أعتى الأعداء وأكثرهم تجبرا وتكبرا .. كل ذلك كان .. منذ آلاف السنين .. واليوم بعد هذا الدرس القديم الذى قدمه اسخيلوس في مسرحيته الفرس بعد فرينيخوس ومسرحيته سقوط ميليتوس لا أظن أنه سيكون مفيدا التوقف عند النظريات والمصطلحات والمسميات فالأجدى والأهم التعرف على الحالة التي نجح مسلسل الإختيار في تحقيقها.. أسبابها ووسائلها ونتائجها .. على الأقل حتى لاتصبح متفردة نذكرها وبعض أبطالها ومؤلفها ومخرجها بإعجاب وإشادة لبعض الوقت مثلما حدث من قبل مع .. الطريق الى إيلات .. انعام محمد على وعزت العلايلى ونبيل الحلفاوى ومحمد سعد وهانى كمال .. والأهم حتى لانظل فريسة سهلة تتقاذفها أمواج الجهل والفقر والغرض ومعها بل وقبلها المخاطر الحياتية والأهداف والخطط الدولية المحيطة بنا التي لم تعد خافية على أحد .. فلم يعد متاحا لنا إلا.. الإختيار .. بين الحياة والدمار ..
تبقى هناك بعض الأسئلة حول العناصر الفنية وأسباب النجاح وإقبال الناس على الاختيار وكذلك الهجوم عليه وهل هو بداية تنفيذ الشركة المنتجة لتوجيهات السيد الرئيس للفنانين بضرورة تقديم مايفيد عندما قال لأحمد السقا ويسرا (حاتتحاسبوا) أم أن الاختيار كان مجرد ضربة حظ ..؟