السيناريست عماد النشار يكتب : لُوبُون وَغَانْدِي… بَيْنَ الحُشُودِ وَالصَّمُودِ


منذ أن أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومعه قائد الكيان المحتل، تصريحاتهم المتكررة حول تهجير أهل غزة إلى دول الجوار—مصر، الأردن، وأخيرًا السعودية—يبدو واضحًا أن هذه التصريحات ليست إلا محاولة لتغطية فشل ميداني وسياسي، إذ تكشف عن فكرة بعيدة عن المنطق ولا يمكن تنفيذها في ظل الرفض العالمي الساحق. وما من شك أن هذه التصريحات تحمل أبعادًا نفسية وخطابًا تهديديًا موجهًا إلى الفلسطينيين، لكنه، في الوقت نفسه، يكشف عن قلق داخلي في الكيان الإسرائيلي نفسه حول عدم القدرة على كسر صمود غزة.
هذه التصريحات تأتي لتوجه عدة رسائل، لكنها في الوقت نفسه تعكس حالة من الهروب إلى الأمام:
رسالة إلى الفلسطينيين: مفادها أن أي مقاومة ستقابل بتهديد وجودي، ليس فقط بالقصف والحصار، بل بمحاولة اقتلاعهم من أرضهم. يريد ترامب والاحتلال تحويل خيار التهجير من كونه كابوسًا مستحيلًا إلى احتمالٍ مطروحٍ يخيّم على العقول، بحيث يصبح أي حل آخر، مهما كان مجحفًا، مقبولًا بالمقارنة. إلا أن العالم كله، من مصر إلى تركيا، ومن الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي، رفض هذه الفكرة جملةً وتفصيلًا، مؤكدًا على أنها غير قابلة للتنفيذ.
رسالة إلى دول الجوار: في البداية، أعلنت الأردن رفضها القاطع لفكرة تهجير الفلسطينيين إلى أراضيها، مؤكدة على دعمها الثابت للقضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم. ولكن، بعد اللقاء بين الملك عبد الله الثاني وترامب، تراجعت المملكة الأردنية عن موقفها المبدئي وأبدت استعدادها للنقاش حول بعض الخيارات. رغم ذلك، بقيت مصر والسعودية على موقفهما الثابت بالرفض الكامل لأي محاولة تهجير للفلسطينيين، مشددين على أن هذه التصريحات غير مقبولة وأن الحل يجب أن يكون من خلال الحوار السياسي والشرعية الدولية.
رسالة إلى الداخل الإسرائيلي: هذه التصريحات، رغم تباهي نتنياهو بلقائه مع ترامب وتفاخره بتوجيه تلك التحذيرات، تتقاطع مع هجوم حاد عليه من المعارضة الإسرائيلية داخل الكنيست، التي ترى في هذه التصريحات دليلاً على فشل السياسة العسكرية الإسرائيلية في غزة. ما يحدث هو أن نتنياهو يستخدم هذه التصريحات كغطاء للفشل العسكري، تمامًا كما حاول سابقًا تصوير الحرب على غزة على أنها انتصار في حين كان الواقع خلاف ذلك.
رسالة من ترامب إلى ناخبيه أنه وبمجرد أن عاد حتى أمسك "بالنبوت" – الصولجان سابقًا – وبدأ يلوّح به في وجه العالم، من بنما إلى كوريا الشمالية، ومن غزة إلى المكسيك، ومن إيران إلى كندا، ومن جنوب أفريقيا إلى المحكمة الجنائية الدولية. ومن أوكرانيا إلى جرينلاند، كل ذلك في محاولة لإقناع الشعب الأمريكي بأنه عاد ليعيد إخضاع العالم وفرض الإتاوة بأثر رجعي. لقد بات على بعد خطوة من إعلان نفسه القادر على أن يحيي ويميت، وأنه "ربهم الأعلى"، في سباق محموم للحاق بركب الطغاة الذين سبقوه، من النمرود إلى فرعون، حيث المصير المحتوم: مزبلة التاريخ.
إذا أردنا فهم تأثير هذه التصريحات بشكل أعمق، فعلينا العودة إلى غوستاف لوبون، وكتابه "سيكولوجية الجماهير"، حيث يمكن للحكام تشكيل الوعي الجمعي عبر التكرار والترهيب. لوبون كان يدرك أن "أي فكرة، مهما كانت واهية، إذا أعيدت على أسماع الجماهير بما يكفي، ستتحول إلى حقيقة في أذهانهم". هذا تمامًا ما يفعله الاحتلال؛ يكرر خطاب التهجير ليبدو وكأنه المصير الوحيد لغزة. لكن لو نظرنا إلى التاريخ، نجد أن محاولات التهجير القسري لم تكن يومًا سيدة القرار. على سبيل المثال، في بداية القرن العشرين، لم تنجح محاولات القوى الاستعمارية في إجبار الشعوب على الاستسلام، بل كان الصمود هو الخيار الوحيد الممكن.
وفي هذا السياق، يتجلى التشابه مع غاندي، الذي قال: "في البداية يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، ثم تنتصر". هذه العبارة، وإن قيلت في سياق مقاومة سلمية، إلا أنها تصف بدقة مراحل الصراع الذي يخوضه الفلسطينيون. فقد تجاهل العالم قضيتهم طويلًا، ثم حاول السخرية من مقاومتهم، وحين لم تنكسر إرادتهم، دخلوا في مرحلة الحرب الشرسة. وما بعد الحرب؟ التاريخ يخبرنا أن الشعوب التي تصمد، هي التي تكتب النصر في النهاية.
التاريخ ليس في صف الاحتلال. ففي كل مرة جُرّب التهجير القسري، كانت النتيجة مقاومة أشد. الفلسطينيون اليوم أكثر وعيًا وإصرارًا من أي وقت مضى، وهم يدركون أن هذه التصريحات ليست أكثر من تهديدات جوفاء تهدف لكسر إرادتهم قبل أن تكون خطة قابلة للتنفيذ.
تمامًا كما رفض الهنود أن يكونوا رعايا في إمبراطورية لا ترى لهم وجودًا، وكما قاومت الجزائر فكرة أنها مجرد امتداد لفرنسا، وكما صمد جنوب إفريقيا في وجه سياسة التفرقة العنصرية "الأبارتهايد"، سيظل الفلسطينيون هناك، على أرضهم، لأنهم ببساطة لا يملكون خيارًا آخر سوى البقاء والصمود… حتى تأتي لحظة النصر التي أخبرنا عنها غاندي، وسَخِرَ منها لوبون، وخاف منها ترامب ونتنياهو.
أما عن "لحظة النصر"، فهي ليست مجرد لحظة سياسية، بل هي لحظة ثقافية ورمزية. النصر ليس فقط في الميدان، بل في الوعي الجماعي الذي يعزز الصمود، ويجعل العالم يتوقف ليس فقط عن النظر إلى غزة كحلبة حرب، بل كمصدر إلهام لشعوب العالم الأخرى في صراعها من أجل الحرية. هل سيكون هذا النصر قريبًا؟ أم أن الشعب الفلسطيني سيواجه المزيد من التحديات قبل أن يكتب التاريخ نهايته؟