الجمعة 28 مارس 2025 09:04 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : البرد القاتل ...... وصراع تحت البطاطين

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

عندما يحل الشتاء، يكون للبؤس وجه آخر أكثر قسوة. ليس الجميع يملكون منازل دافئة، وليس كل الأجساد تجد ما يحميها من لسعات البرد القاتلة. في الأزقة الضيقة، وتحت الجسور، وعلى الأرصفة، هناك من لا يملك سوى قطعة قماش مهترئة تحاول عبثًا أن تحجب عنه قسوة الريح، وهناك من يرتجف داخل بيت بلا نوافذ، حيث تسلل الهواء البارد ليجعل النوم رفاهية لا يملكها.

الشتاء في عيون الفقراء ليس موسمًا يحمل المطر والفرح، بل وحش ينهش عظامهم، وألم يمتد بلا نهاية. هو الليالي الطويلة التي يقضونها في صراع مع الجوع والصقيع، وهو الأيادي المتجمدة التي تمتد بلا مجيب، وهو أطفال يتكورون على أنفسهم تحت البطاطين البالية، علّ أجسادهم تحتفظ بشيء من الدفء. البرد ليس مجرد حالة طقس، بل اختبار قاسٍ لمن لا يملكون إلا الصبر.

الشتاء حين يصبح رعبًا

تحت الجسور وعلى الأرصفة، يجلس رجل مسن التهم البرد عظامه، التفّ بمعطف قديم لم يعد يحميه، بينما قدماه العاريتان ترتجفان فوق الرصيف المبلل. لا نار تحرق أطرافه المتجمدة، ولا يد تمتد لتمنحه بعض الدفء. بجواره طفل صغير يحاول أن ينام، يتوسد قطعة كرتون، ووجهه الشاحب يروي مأساته بصمت.

وفي البيوت الفقيرة، لا يختلف الحال كثيرًا. هناك، تتسلل الرياح من نوافذ مكسورة، فتتجمد الأرواح قبل الأجساد. أم تحتضن طفلها الرضيع، تحاول أن تمنحه بعضًا من دفء جسدها، لكن البرد أقوى، يتسلل إلى رئتيه الصغيرتين، فيبدأ بالسعال، ثم يختنق أنفاسه شيئًا فشيئًا، فلا تجد الأم سوى الدموع تصارع بها هذا المصير المحتوم.

غزة.. برد الحرب والموت معًا

أما في غزة، فالقصة أكثر إيلامًا، فالشتاء هنا ليس مجرد طقس قاسٍ، بل لعنة يرافقها الجوع والخوف والدمار. في بيوت نصفها مدمر، وأخرى بلا أسقف، يعيش الأطفال والنساء والشيوخ داخل جدران باردة لا تحميهم من شيء. لا كهرباء، لا تدفئة، لا أغطية كافية، وحتى النار التي يحاولون إشعالها للتدفئة، أحيانًا تكون هي نفسها سبب اختناقهم.

تخيل أن تعيش ليلة كاملة تحت القصف والبرد معًا، أن تستيقظ على أصوات الريح والرصاص، وأن تحتضن أطفالك بينما ترتجف لا خوفًا فقط، بل بردًا أيضًا. هنا، في غزة، لا فرق بين الموت بردًا أو الموت قصفًا، فالنتيجة واحدة، والمأساة تتكرر كل شتاء.

في العتمة، يجلس رجل عاجز يرى أطفاله يتجمدون أمام عينيه، يحاول أن يشعل نارًا ببعض الأخشاب المتناثرة من بقايا بيته المهدم، لكن اللهب ضعيف، لا يكفي ليمنحهم الدفء، ولا يكفي ليشعر هو بالطمأنينة. وهنا أم تبكي لأن طفلها مريض، وحرارة جسده لا ترتفع رغم أنها تلفه بكل ما تملك من أغطية. وهناك شيخ لم يعد يحتمل هذا الصقيع، فنام، لكنه لن يستيقظ أبدًا.

معاناة تتكرر.. وأمل في يد تمتد

كل شتاء، يعود المشهد نفسه، وتتكرر المأساة ذاتها، ولا أحد يشعر بها سوى من يعيشها. بين البرد والجوع، يخوض الفقراء حربًا لا تنتهي، بينما يتابع العالم أخبار الطقس وكأنها مجرد نشرة جوية لا علاقة لها بالموت المتربص بآلاف الأرواح.

لكن، رغم هذا الظلام، هناك أمل.. في بطانية تصل إلى مشرد، في موقد صغير يمنح أسرة فقيرة بعض الحياة، في يد تمتد لتمسح دموع طفل بردان. الشتاء قاسٍ، لكن الرحمة أقوى، ودفء القلوب قد يكون هو الدفء الوحيد الذي ينقذ هؤلاء من موت بارد وصامت.