الخميس 17 أبريل 2025 05:37 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

السيناريست عماد النشار يكتب : غَزَّةُ وبَغْدادُ بَيْنَ مَغُولِ الأَمْسِ وَاليَوْمِ

السيناريست عماد النشار
السيناريست عماد النشار

ليس الابتلاء علامة الهزيمة، بل هو غربال يصفي المعادن، ويميز الطيب من الخبيث. حين اشتد البلاء على الأنبياء، لم يكن ذلك دليلاً على تخلي الله عنهم، بل اختباراً لصبرهم وإيمانهم. وغزة اليوم ليست استثناءً من هذا القانون الإلهي، بل هي ساحة اختبار لعزيمة الأمة قبل أن تكون ساحة معركة. فإن كان الظلم قد طغى، والقوة المادية قد تكالبت، فإن التاريخ يخبرنا أن دوام الحال من المحال، وأن للأيام دولاباً يدور، وما ظُلم شعبٌ إلا وأذن الله لفجرٍ جديد أن يولد من رحم المعاناة.

منذ حوالي سبعة قرون ،وقف شيخٌ مُسنٌّ على ضفاف نهر دجلة، يتأمل المياه التي اسودّت بالحبر المختلط بدماء القتلى. لم يكن نهرًا في ذلك اليوم، بل صفحة مفتوحة كُتبت عليها نهاية حضارة امتدت قرونًا. الكتب العائمة فوق الماء لم تكن مجرد أوراقٍ، بل كانت خلاصة علمٍ وفكرٍ أُحرق بجهل الغزاة وخيانة الأبناء. في عام 1258م، اجتاح المغول بقيادة هولاكو مدينة بغداد، قلب الخلافة العباسية، وارتكبوا واحدة من أبشع المجازر في التاريخ. لم يكن المشهد مجرد هزيمة عسكرية، بل كان انهيارًا حضاريًا وأخلاقيًا، حيث قُتل مئات الآلاف، وأُحرقت أعظم مكتبات الدنيا، وسقطت آخر معاقل العز.

في ذلك اليوم، لم يكن العدو وحده هو المشكلة، بل كان التخاذل والفرقة هما السلاح الذي مكّن المغول من فعل ما فعلوه. الأمة كانت غارقة في صراعاتها، منشغلةً بخلافاتها الصغيرة، حتى جاء الطوفان وجرف الجميع.

واليوم، وبعد أكثر من سبعة قرون، يعيد التاريخ نفسه بصورٍ أكثر قسوة ودموية، ولكن هذه المرة في غزة. المدينة الصغيرة المحاصرة، التي تقف وحدها تحت نيران القصف، تواجه آلة الحرب بصدورٍ عارية، بينما العالم الإسلامي يتفرج، يكتفي ببيانات الإدانة، ويقف عند عتبة العجز. وكما سقطت بغداد بخيانة وتخاذل بعض قادتها، تجد غزة نفسها اليوم محاصرةً بين نار العدو وصمت القريب.
تحكي الروايات أن ابنة هولاكو، زعيم المغول، كانت تتجول في بغداد بعد أن عاث جيشها فيها فسادًا، فشاهدت حشدًا من الناس يلتفون حول شيخٍ جليل، يتحدث فيهم بكلماتٍ لم تكن تفهمها، لكن هيئته الهادئة وسط الخراب أثارت فضولها. أمرت جنودها بإحضاره مقيد اليدين والرجلين، ثم نظرت إليه بازدراء وقالت:
"ألستم المؤمنين بأن الله ينصركم؟"
أجابها بهدوء، وعيناه تتأملان الخراب من حوله:
"بلى."
"ألا تقولون إن الله يؤيد من يشاء وينصره؟"
"بلى."
"إذن، كيف يترككم الله لنا؟ كيف ينصرنا عليكم؟ أفلا يعني ذلك أننا أحب إلى الله منكم؟"
ابتسم الشيخ رغم القيود، ونظر إليها بعينين تشعان بحكمة قرونٍ من التاريخ، وقال:
"يا ابنة هولاكو، ألا تعرفين راعي الغنم؟"
"بلى، وماذا عنه؟"
"إذا شردت غنمه وعصت أمره، ماذا يفعل؟"
"يرسل عليها كلابه لتعيدها إلى الحظيرة."
"وإذا عادت إليه، ماذا يصنع بها؟"
"يكفيها شر الكلاب."
أخذت الصمت لحظة، ثم سألته:
"وما شأن هذا بنا؟"
"هذا مثلنا ومثلكم؛ إن الله هو الراعي، ونحن غنمه، وأنتم كلابه، وما سلط الراعي الكلاب على الغنم إلا لأنها ابتعدت عنه، فإذا عادت إليه، رد كلابه عنها."
في تلك اللحظة، لمعت عين ابنة هولاكو، وكأنها فهمت شيئًا عميقًا للمرة الأولى. هذه القصة ليست مجرد حكاية تُروى، بل هي مرآة لحال الأمة حين تبتعد عن منهج الله، فتجد نفسها مُسلّطة عليها قوى لا تعرف الرحمة، حتى تدرك خطأها وتعود إلى رشدها.
لكن التاريخ ليس فقط سجلًا للهزائم، بل هو أيضًا كتابٌ مفتوحٌ يسجل لحظات النصر حين تجتمع الإرادة مع الإيمان. فبعد اجتياح بغداد وسقوط الشام، وصلت جحافل المغول إلى فلسطين، واحتلوا غزة، وهددوا مصر، فأرسلوا رسالةً إلى السلطان المملوكي سيف الدين قطز يطالبونه بالخضوع أو المواجهة. اختار قطز الخيار الذي يليق بالأبطال، وقرر أن يواجه الجيش الذي لم يُهزم من قبل.
خرج قطز بجيشه إلى عين جالوت، السهل الواقع بين نابلس وبيسان، حيث كانت المواجهة الفاصلة. كان اليوم يوم الجمعة، 25 رمضان 658هـ (3 سبتمبر 1260م). استخدم قطز تكتيكًا ذكيًا، حيث تظاهر بالانسحاب ليجر المغول إلى كمينٍ مُعد مسبقًا. وما إن انقضت اللحظة الحاسمة، حتى رفع قطز خوذته عن رأسه، وصاح بأعلى صوته: "وا إسلاماه!" فاندفع الجنود بروحٍ جديدة، وكان النصر لهم.
لم يكن ذلك انتصارًا عسكريًا فقط، بل كان استعادة للكرامة، وإثباتًا أن المغول ليسوا قوة لا تُقهر، بل يُهزمون حين ينهض الرجال بحق.
كانت غزة أولى المدن التي احتلها المغول في طريقهم إلى مصر، وكانت أيضًا آخر أرضٍ وطأوها قبل أن يُهزموا في عين جالوت. واليوم، تقف غزة من جديد كحصنٍ أخيرٍ في وجه الاحتلال، تكتب بدماء شهدائها قصة صمودٍ جديدة. الفرق الوحيد أن قطز لم يعد بيننا، والجيوش التي حررت فلسطين ذات يوم باتت مشغولةً بحروبٍ داخلية لا طائل منها.
لكن غزة، رغم كل شيء، ترفض أن تستسلم. وكما كانت عين جالوت نقطة تحول في التاريخ الإسلامي، فإن غزة اليوم ربما تكون بداية التغيير، رغم كل الخذلان والتواطؤ الدولي.
إن كان قدر غزة أن تقف وحيدة اليوم، فليس ذلك إلا لأن الأمل يخرج من أشد اللحظات ظلمةً. قد تتأخر النهايات العادلة، لكنها لا تُمحى من دفتر الأقدار. وكما سقط المغول تحت سنابك خيول المماليك، وكما تحررت القدس بعد عقودٍ من الاحتلال، فإن غزة ليست إلا حلقةً أخرى في سلسلة صراعٍ طويل، نهايته ليست بيد الأقوياء، بل بيد من يملك إيمانًا لا يتزعزع بأن العدل الإلهي لا يُهزم، وأن الموازين تُقلب حين يحين أوانها، وأن الغلبة في النهاية لمن صبر وصمد ولم يبدل تبديلا.

السيناريست عماد النشار غَزَّةُ وبَغْدادُ بَيْنَ مَغُولِ الأَمْسِ وَاليَوْمِ الجارديان المصرية