حسين السمنودى يكتب : حين تنقلب الموازين بين خوف الدنيا وخوف الآخرة


الإنسان مجبول على السعي نحو الأمان، فهو يتجنب كل ما يهدد استقراره وراحته، ويعمل جاهدًا لتأمين مستقبله وتحصيل الرزق الذي يضمن له حياة كريمة. غير أن كثيرًا من الناس يجعلون خوفهم من الفقر مقدمًا على خوفهم من النار، وحرصهم على الغنى أقوى من حرصهم على الجنة، وخشيتهم من نظرة الناس إليهم أعظم من خشيتهم لله في السر. ولو أنهم أعادوا ترتيب أولوياتهم، فجعلوا مخافة الله فوق كل خوف، والطمع في رضوانه فوق كل طمع، لكانوا من الناجين الفائزين في الدنيا والآخرة.
الخوف من الفقر هو أحد الهواجس التي تسيطر على حياة الإنسان، فيجعله يسهر الليالي ويكدح طوال النهار ليحصل على قوت يومه، ويؤمّن مستقبله ومستقبل أبنائه. وقد يصل به الأمر إلى أن يتنازل عن مبادئه أو يقترف الحرام طمعًا في زيادة المال، حتى لو كان ذلك على حساب آخرته. لكن السؤال الأهم: لماذا لا يكون الخوف من النار بنفس الحدة؟ لماذا يخشى الإنسان أن يفقد ماله أكثر مما يخشى أن يخسر حسناته؟ الله تعالى يقول: "فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ" (البقرة: 24). هذا التحذير القرآني ينبغي أن يجعل الإنسان يرتعد خوفًا من أن يكون من أهلها، كما يرتعد من فكرة العوز والفقر، لكن القلوب التي انشغلت بالدنيا غفلت عن الآخرة، فاختل الميزان، وصار الخوف من الفقر هو المسيطر، بينما الخوف من الله تراجع في سلم الأولويات.
لو أن الإنسان رغب في الجنة كما يرغب في الغنى، وسعى إليها بنفس الحماس والإصرار، لكان ذلك أولى به، فهي الدار الباقية، ونعيمها لا يزول. الله تعالى يقول: "سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ" (الحديد: 21). السباق إلى الجنة يتطلب مجهودًا، كما يتطلب جمع المال مجهودًا، لكنه مجهود من نوع مختلف، قائم على التقوى والعمل الصالح. النبي ﷺ كان يقول: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة." أي أن من خاف من عذاب الله بادر إلى التوبة والطاعة، كما يبادر الإنسان الذي يخاف الفقر إلى العمل والادخار. غير أن أكثر الناس يسعون خلف المال بكل طاقتهم، بينما يسعون للآخرة بفتور وتكاسل، فتراهم يؤجلون التوبة، ويتهاونون في العبادات، كأن الجنة ستنتظرهم دون جهد.
الخوف من الله هو أعظم درجات الإيمان، لكنه لا يكون حقيقيًا إلا إذا كان حاضرًا في السر كما هو في العلن. كثير من الناس يحرصون على الظهور بمظهر الصالحين أمام الآخرين، ويجتنبون الذنوب التي قد يراهم الناس وهم يقترفونها، لكنهم لا يجدون مانعًا من الوقوع فيها حين يكونون بمفردهم. وهذا هو الابتلاء الحقيقي، فالله تعالى لا تخفى عليه خافية، وهو المطلع على أعمال العباد جميعًا. النبي ﷺ حذر من هذا النوع من النفاق الخفي حين قال: "لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله هباءً منثورًا." قالوا: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: "أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها." هؤلاء لم يخشوا الله في الخلوات، فكانت أعمالهم الصالحة بلا روح، فلم تنفعهم يوم الحساب.
الحياة الدنيا دار امتحان، ومن يفهم هذه الحقيقة يدرك أن كل لحظة فيها ينبغي أن تُستثمر في طاعة الله. لكن الغريب أن الناس يخططون لحياتهم الأرضية وكأنها أبدية، بينما يخططون للآخرة بكسل وتسويف. تجد الإنسان يضع خطة مالية لعشرين سنة قادمة، لكنه لا يضع خطة إيمانية ليوم موته وما بعده. يقول الله تعالى: "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ" (الروم: 7). الغفلة عن الآخرة سبب رئيسي في انقلاب الموازين، فالإنسان الذي لا يستحضر لقاء الله ولا يتذكر الحساب، لن يكون لديه دافع قوي لترك المعاصي، ولن تكون له رغبة حقيقية في المسارعة للخيرات.
العاقل هو من يدرك أن الميزان الصحيح للحياة يجب أن يكون متوازنًا، فلا إفراط في طلب الدنيا ولا تفريط في العمل للآخرة. وقد قال النبي ﷺ: "الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأَمَانِيَّ." أي أن الذكي حقًا هو الذي يحاسب نفسه ويعد العدة ليوم الحساب، أما العاجز فهو الذي يعيش حياته وفق هواه، ويؤجل التوبة، ويعتمد على الأماني الفارغة بدلًا من العمل الصالح.
التوازن بين الدنيا والآخرة هو سر النجاة، فمن جعل خوفه من الله فوق كل خوف، وسعى إلى الجنة كما يسعى إلى المال، وحرص على اجتناب النار كما يحذر من الفقر، فإنه سيكون من الفائزين. ولنتذكر دائمًا أن الدنيا مهما طالت فهي فانية، وأن الخلود الحقيقي في الدار الآخرة، حيث الجنة لمن عمل لها، والنار لمن غفل عنها.