الأحد 15 يونيو 2025 03:02 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

السيناريست عماد النشار يكتب : لَقَدْ ذَهَبَ مُعْظَمُهُ... وَبَقِيَ أَعْظَمُهُ

السيناريست عماد النشار
السيناريست عماد النشار

كأنها طرفةُ عينٍ... بالأمس كنا نستقبل رمضان بشغفٍ، نَحْسِبُ الأيام ونرتب الليالي، ونتهيأ له كما يتهيأ العطشانُ لأول قطرةٍ من غيثِ السماء. واليوم نقف في ثُلُث الطريق الأخير، نلتفتُ خلفنا فنجد أن معظم الشهر قد مرَّ كعابرِ سبيلٍ لم نكد ننتبه إليه، ونتطلع أمامنا فنرى أن أعظمه قد بقي، وكأن الله قد ادَّخر لنا الخير في خواتيم الأمور.

إنها العشر الأواخر... جوهرةُ رمضان وتاجُ أيامه، ليالٍ من نورٍ ووهج، اختصها الله بالخيراتِ المضاعفة والبركات المكنونة، وجعل فيها ليلةً واحدةً، لكنها بألف شهرٍ، يُبدِّل الله فيها الأقدار، ويفتح أبواب الرحمة، ويعتق رقابًا ربما كُتبت عليها الشقاء، فإذا بها تُكتب من السعداء. إنها ليلة القدر، التي قال عنها رسول الله ﷺ: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (متفق عليه).

وكان النبي ﷺ إذا دخلت هذه العشر شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، كما روى البخاري ومسلم. يطوي الفراش، ويدع اللذائذ، ويغرق في صلاته ومناجاته، كأنما لا يرى في الكون شيئًا سوى رحمة الله. ولقد كان اعتكافه في المسجد خلالها إعلانًا صامتًا بأن الدنيا كلها تنحني أمام لحظة صفاء مع الله، لحظةٍ قد تكتب لصاحبها العمر كله في الجنة.

وليس النبي ﷺ وحده من أدرك سرَّ هذه الأيام، بل كان السلف الصالح يعظمونها أعظم تعظيم، فهذا الإمام مالك إذا دخلت العشر ترك الحديث والفتيا، وانشغل بالقرآن والعبادة، وكان سفيان الثوري يقول: "العشر الأواخر أحب إليّ من أول الشهر، لأن فيها ليلة القدر". كان هؤلاء القوم يفرغون قلوبهم وأرواحهم في محاريب العبادة، كأنهم يرون الجنة رأي العين، وكأنهم يخشون أن تفوتهم لحظةٌ واحدةٌ قد تُغير مصائرهم.

ألا يحق لنا أن نسأل أنفسنا: كيف يكون حالنا إن خرجنا من رمضان كما دخلناه؟ هل يمكن أن نفرّط في هذه الأيام العشر، وهي التي قد تغسل ذنوب السنين؟ هل نسمح لأشغال الدنيا أن تخطفنا، وهي التي ستظل قائمةً بعد أن يرحل رمضان؟

وفي هذا السياق، ورد عن النبي ﷺ أنه قال: "رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ" (رواه الترمذي). هذا الحديث يُظهِرُ أنَّ مَن أدركَ شهرَ رمضانَ ولم يُغفَرْ له، فقد خابَ وخَسِرَ، لأنَّه لم يستفِدْ من فُرصةِ المغفرةِ والرحمةِ في هذا الشهرِ الفضيلِ.

ولعل أجمل ما يُقال في هذه الأيام، ما حكاه ابن الجوزي رحمه الله: "إنَّ الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك، فإنما الأعمال بالخواتيم، فإنك إذا لم تحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع...". نعم، نحن الآن في المضمار الأخير، فكيف نختم؟ هل ننفض عن أرواحنا غبار الغفلة ونتأهب للقرب من الله؟ هل نحمل أرواحنا على الصبر كما يحمل الفارس جواده عند خط النهاية؟

وفي غمرة هذه النفحات المباركة، سألت السيدة عائشة رضي الله عنها النبي ﷺ: "يا رسول الله، إن وافقتُ ليلة القدر، فبمَ أدعو؟" فجاء الجواب الذي يختصر جوهر الرجاء في هذه الليلة العظيمة: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".

ما أروع هذا الدعاء، وما أعمق معناه! فهو ليس مجرد كلمات تُقال، بل هو تلخيص لرحلة الإنسان في البحث عن الصفح الإلهي، واعترافٌ ضمني بأن كل ما مضى من الذنوب يمكن أن يُمحى في لحظة عفو من الله. هنا، في هذه الليالي، حيث تتنزل الرحمات وتُبدَّل الأقدار، يبقى السؤال: هل سنرفع أيدينا بنفس الثقة واليقين، راجين من الله أن يعفو عنَّا كما أمر حبيبه أن نطلب؟

هذا وقت العزائم، وقت اللحاق لمن تأخر، وقت المسابقة لمن تباطأ، ووقت الإخلاص لمن أراد وجه الله. فكيف نستقبل هذه الأيام؟ هل سنجعلها مثل بقية أيامنا، أم سنقف بين يدي الله بقلوبٍ منكسرة، وأيدٍ مرفوعة، وألسنٍ لا تكف عن الدعاء؟

ها هو الباب الأخير يُفتح، والأنوار تتوهج في العشر الباقيات، فهل نلج في رحمتها، أم نقف على العتبة ونتركها تمضي؟ "بل ندخل... وندخل بقوة."

السيناريست عماد النشار مقالات عماد النشار الجارديان المصرية