الأحد 20 أبريل 2025 03:41 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : كيف تعيش شريفًا في وسط قد لا يكون شريفًا؟

الكاتب الكبير حسين السمنوى
الكاتب الكبير حسين السمنوى

في زمنٍ طغت فيه المصالح على المبادئ، وتغيرت فيه الملامح حتى أصبح الصدق غريب الوجه، والنزاهة عملةً نادرة، والشرف ضيفًا عابرًا لا يقيم طويلًا، يتساءل الكثيرون: كيف يعيش الإنسان شريفًا في وسط قد لا يعرف عن الشرف شيئًا؟ كيف يحفظ نقاء قلبه في زمنٍ ازدادت فيه الأقنعة، وتكاثرت فيه المساومات؟

الجواب، رغم بساطته، يبدو كأنه معركة من نوع خاص. فأن تعيش شريفًا، لا يعني فقط أن تلتزم الصدق في القول، أو الأمانة في التصرف، بل أن تختار طريقًا أصعب، طريقًا مليئًا بالوحدة أحيانًا، وبالإحباط كثيرًا، لكنه الطريق الوحيد الذي يوصلك إلى نفسك دون أن تفقدها على الطريق.

الشرف لا يُمنح بالوراثة، ولا يُكتسب من شهادات أو مناصب، بل هو اختيار حر ينبع من أعماق الروح، ومن إيمانك العميق بأن الكرامة ليست مجرد كلمة، بل أسلوب حياة. أن تكون شريفًا، يعني أن تظل نظيف القلب وسط عالم يبيع القيم بثمن بخس، عالم لا يرى في النزاهة سوى عجز، وفي الأمانة سذاجة، وفي الصدق تهور.

أن تعيش شريفًا، هو أن تصارع إغراء الطرق المختصرة، أن تقول "لا" حين يقول الجميع "نعم"، أن تظل متمسكًا بقيمك حتى لو خذلك أقرب الناس إليك، حتى لو ظنوا أنك "مختلف"، حتى لو خسرت في معركة المصالح، لأنك في النهاية تفوز في معركة المبادئ.

الشرف هو أن تملك شجاعة الرفض، أن ترفع رأسك عاليًا وأنت تغادر مكانًا ضاق قلبك به، أن تملك قوة الصمت في وجه الإساءة، وقوة الكلام في وجه الباطل، وقوة التواضع في لحظة الانتصار، وقوة الاحتمال في لحظة الانكسار.

في وسط قد لا يكون شريفًا، يتغير مفهوم النجاح. لم يعد النجاح أن تجمع المال، أو تعتلي المناصب، أو تحصد التصفيق، بل أن تحافظ على إنسانيتك. أن تظل بسيطًا، صادقًا، نقي النوايا، حتى وإن غُلبت في صراع الحياة، فالهزيمة المادية لا تعني سقوط الروح، والخسارة لا تعني الفشل، إنما الفشل الحقيقي هو أن تنسى من تكون، وأن تسمح للفساد أن يسكن داخلك حتى وأنت تهاجمه من الخارج.

في عالمٍ متسارع، يغري الجميع بالتنازلات، يحتاج الشريف إلى صلابة الجبال، ومرونة الماء، وهدوء السماء، حتى لا تفسده تقلبات الزمان، ولا تكسره خيانات البشر. فالشرف الحقيقي لا يحتاج جمهورًا يصفق، بل يحتاج ضميرًا حيًا لا يسكت، قلبًا طاهرًا لا يقبل الزيف، ونفسًا راضية بأن تزرع الخير، حتى إن لم تجد من يحصد الثمر.

قد تعيش شريفًا وتدفع ثمن ذلك غاليًا: قد تخسر صديقًا، أو فرصة عمل، أو مكانة اجتماعية، لكنك في المقابل ستربح راحة بالك، ونقاء ضميرك، وثقة نفسك، وحب السماء. وما أجمل أن تنظر في المرآة وتجد إنسانًا لا يخجل من نفسه، ولا يتهرب من ماضيه، ولا يساوم على مبادئه.

في النهاية، الشرف ليس وصفًا اجتماعيًا، بل حالة وجود. أن تكون شريفًا يعني أن تعيش مع الله ومع نفسك في سلام، بعيدًا عن زيف العالم وتقلباته. والذين يحافظون على شرفهم وسط عالم فاسد، هم الأبطال المجهولون الذين يصنعون الفرق في صمت، ويضيئون الطريق لغيرهم حتى وإن عاشوا حياتهم بلا أوسمة ولا احتفالات.

الزمن قد يتغير، الناس قد تتبدل، القيم قد تتآكل، لكن الشرفاء يظلون كأشجار الزيتون؛ واقفين، شامخين، متجذرين في الأرض، ثابتين رغم كل رياح الدنيا.

الشرف قرار شجاع، والثبات عليه بطولة يومية، لا يفهمها إلا من عاشها.