السيناريست عماد النشار يكتب : جهازك يحتاج مقاومة!


في صباح خانق، تسللت فيه رطوبة الصيف إلى زوايا البيت، توقف جهاز التكييف عن العمل، لا صوت، لا نسمة، لا شيء يخفف وطأة الحرّ، كأن الصيف أعلن احتلاله الكامل. وقبل أيام فقط، حين تجمدت أطراف المنزل تحت وقع الشتاء، كان الجهاز ذاته قد خذله بالصمت نفسه. بدا وكأن الفصول لا تتعاقب على هذا البيت، بل تتناوب على احتلاله، تمارس سطوتها بالتناوب، مرة بلهيب، وأخرى بصقيع. وما دام لا شيء يواجهها، فإن البيت سيظل مستسلماً لكل اجتياح.
لم يجد صاحب المنزل حلًا سوى الاتصال بأحد الفنيين المختصين، لعل ما تعطّل يُصلح، ولعل ما اختلّ يعود.
وصل الفني بعد قليل، يحمل حقيبته الصغيرة كأنها صندوق أسرار، تفحّص الجهاز بصمت، تابع أسلاكه، لمس أطرافه، راقب مؤشراته بعين خبيرة. ثم وقف، تنفّس بهدوء، ورفع عينيه نحو صاحب المنزل قائلاً بنبرة مطمئنة لا تخلو من شيء من الحكمة: "المشكلة بسيطة... جهازك يحتاج مقاومة."
تفاجأ صاحب المنزل، ترددت الكلمة في أذنه كأنها لا تنتمي إلى سياق الأعطال، وقال مستغربًا: "مقاومة؟ هذه القطعة الصغيرة فقط؟"
ابتسم الفني وقال: "نعم، لكنها أهم مما تتخيل. هي التي تُوازن التيار، تُبطئ اندفاعه، وتمنع الجهاز من الاحتراق. بدونها، لا يمكن لأي نظام كهربائي أن يعمل بسلام."
ساد صمت قصير، ثم واصل الفني: "وما المقاومة في الأجهزة إلا انعكاس لما نحتاجه نحن في حياتنا... نحن أيضًا نحتاج مقاومة. مقاومة الظلم، مقاومة الاحتلال، مقاومة الإحباط، وحتى أجسادنا تحيا بالمقاومة، بما نسميه ‘المناعة‘."
كلماته لم تكن مجرد شرح إضافي، بل بدت كأنها تفتح نافذة على معنى أبعد. لمعت في ذهن صاحب المنزل فكرة غير مكتملة، لكنه شعر بها تنمو بصمت، كما تنمو جذور خفية تحت الأرض. شعر بأن الجملة التي سمعها لا تخص جهاز التكييف وحده. بدت له الكلمات وكأنها موجهة إليه شخصيًا، بل إلى كل من خذله التوازن في لحظة ما، أو سمح للألم أن يحتل قلبه.
ابتسم صاحب المنزل بخجل، وهو يشعر بأن الكلمات تتوغل في أعماقه، فكر للحظة قبل أن يرد قائلًا: "لم أكن أعلم أن قطعة بهذا الصغر قادرة على أن تختصر كل هذا المعنى."
أومأ الفني برأسه قائلاً: "المقاومة ليست مجرد قطعة... إنها مبدأ. في كل شيء. في الأجهزة، في البشر، وحتى في الأرض. من دونها، ينهار كل شيء."
كان لهذا الحديث وقعٌ عميق في قلب صاحب المنزل، الذي بدأ يرى جهاز التكييف شيئًا أكبر من مجرد آلة. بدأت تتشكل لديه فكرة جديدة عن كيف يمكن للمقاومة أن تكون جوهرًا للحياة، لا فقط في المعركة ضد الاحتلال أو الظلم، بل في كل تفاصيل الوجود.
حين يُحتلّ المكان، لا يُسرق منه التراب فقط، بل يُنتزع من أهلها الحلم والهوية، وتُجتث منها أشجار الذاكرة، ويُغتال فيها الأمل. إلا أن هناك شيئًا واحدًا يبقى عصيًا على القهر: إرادة المقاومة.
المقاومة ليست بندقية وحسب، بل هي أولاً فكرة، ثم عقيدة، ثم فعل. هي صوت داخلي يرفض الاستسلام، وإن بدت كل الظروف تنادي بالانكسار. هي التمسك بالحق حين لا يبقى من العالم صوت إلا صوت الباطل.
وقد يستهين البعض بإيمان الضعيف حين يواجه القوي، لكن التاريخ كان دائمًا في صف أصحاب العقيدة، لا أصحاب الدبابات. فالمقاومة لا تقاس بعدد الصواريخ ولا بحجم الذخائر، بل تُقاس بمدى الصدق في الإيمان بالقضية.
لا شيء يشبه فعل المقاومة حين تكون من أجل الأرض والكرامة والحرية. إنها فعل إنساني سامٍ، تتجلى فيه أرقى معاني التضحية والعطاء.
وهي ليست فقط رد فعل على العدوان، بل حالة وجودية يعيشها المقاوم بكل تفاصيلها، حتى يصبح مستعدًا لأن يبذل روحه، وهو يعلم أن النصر قد لا يكون له، لكنه سيكون حتماً لمن يأتي من بعده.
قد تُهدم البيوت، وتُجتث الأشجار، وتُمحى ملامح المدن، وقد يسقط الأبطال واحدًا تلو الآخر، لكن المقاومة لا تموت. لأنها لا تسكن في الحجر، بل في القلب.
ولأنها لا تتغذى على الانتصارات العاجلة، بل على الإيمان العميق بعدالة القضية، تظل المقاومة متقدة حتى في أشد لحظات الانكسار، لأنها لا تستند إلى النتائج، بل إلى الواجب.
المفارقة ليست في فداحة الخسائر، ولا في فارق الإمكانيات، بل في ثبات المبدأ. فالمحتل يقاتل ليبقى، أما المقاوم فيقاتل لأنه لا يستطيع أن يكون إلا حراً.
المحتل يخشى الموت، أما المقاوم فقد تصالح معه منذ أول طلقة، بل لعله يتوق له إن كان ثمنه أن تعيش أرضه حرّة.
المقاومة ولادة، تولد من رحم الظلم، وتشبّ على قهر العدو. وهي لا تسأل: "متى ننتصر؟" بل تسأل: "كيف لا نخون ما نؤمن به؟"
في كل عصر، حين تغيب موازين العدالة، يولد من بين الأنقاض جيل لا يعرف الخوف، لا يتغنى بالبطولة بل يصنعها، لا ينتظر النصر بل يمهد له، ولو بالدم.
هكذا تُبنى المقاومة: بالعقيدة، لا بالعتاد. بالإيمان، لا بالأرقام. وبأن نردد، كما ردّد من قبلنا: "قد يُهدم البيت، وتُقلع الشجرة، لكن ما دام في القلب جذور، فالأرض لنا... والنصر لنا."
فكما يتوقف الجهاز عن العمل في غياب المقاومة، فإن الحياة ذاتها تتوقف دون إرادة المقاومة؛ فالمقاومة ليست مجرد فعل عابر، بل هي جوهر الكرامة وشرط الوجود، بها تُصان الحريات وتُبنى الأمم.