الخميس 1 مايو 2025 07:30 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

احمد سعد يكتب : ” الأسرة في ظل العولمة”

الكاتب احمد سعد
الكاتب احمد سعد

في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها العالم المعاصر تبرز ظاهرة العولمة بوصفها واحدة من أبرز القضايا التي ألقت بظلالها على مختلف جوانب الحياة الإنسانية وقد تبدو العولمة في ظاهرها مشروعًا اقتصاديًا عالميًا لكنها في جوهرها منظومة متكاملة تشمل الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع والقيم وحتى العلاقات الشخصية ومن بين أهم المؤسسات التي تأثرت بشكل مباشر بهذه الظاهرة المتسارعة نجد الأسرة التي تُعد اللبنة الأساسية في بناء المجتمع والمحضن الأول الذي يتلقى فيه الإنسان معارفه الأولى وتتشكل فيه شخصيته وانتماءاته وهويته الثقافية والدينية والوطنية وهنا تطرح العولمة تحديات معقدة ومتشابكة على وجود الأسرة ووظيفتها وتماسكها واستمراريتها فقد أصبحت الأسرة أمام خيارات متناقضة بين الحفاظ على تقاليدها وهويتها وبين الانخراط في موجات التغيير التي تجتاح العالم بسرعة غير مسبوقة مما يجعل وجود الأسرة في ظل العولمة محل تساؤل ونقاش دائمين

لقد فرضت العولمة نمطًا جديدًا من الحياة يقوم على السرعة والفردانية والتنافس الشرس وهو ما انعكس سلبًا على العلاقات الأسرية التقليدية التي كانت تقوم على التكافل والتعاون والاعتماد المتبادل إذ أصبح الأفراد يميلون إلى تحقيق ذواتهم بشكل منفصل عن المؤسسة الأسرية وأصبحت القيم الاستهلاكية المادية تغزو المنازل وتؤثر على التربية والاهتمامات اليومية للأبناء بل إن وسائل الإعلام والاتصال الحديثة التي وفّرتها العولمة مثل الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي أسهمت في فتح النوافذ على ثقافات متعددة بعضها يتعارض جوهريًا مع القيم الأسرية المحلية فصار الطفل أو المراهق يتلقى معارفه ومفاهيمه من بيئات رقمية متعددة قد لا تخضع لأي ضوابط أخلاقية أو تربوية ما يؤدي إلى حدوث صدام بين الأجيال داخل الأسرة الواحدة فالأبناء يتشبعون بقيم عالمية بينما الآباء يحاولون التمسك بقيم المجتمع الأصيلة وهنا يبدأ الشرخ في التوسع بين أفراد الأسرة ما يهدد تماسكها ووحدتها

من ناحية أخرى فإن العولمة بما حملته من تحولات اقتصادية دفعت العديد من الأسر إلى الدخول في دوامة العمل المتواصل إذ لم يعد دخل الفرد الواحد كافيًا لإعالة الأسرة فاضطرت النساء إلى العمل خارج المنزل ما غيّر من توزيع الأدوار التقليدي داخل الأسرة وخلق نوعًا من التوتر أحيانًا في العلاقة بين الزوجين بل وأثر على تربية الأبناء الذين قد يجدون أنفسهم في كثير من الأحيان دون متابعة مباشرة من الأبوين بسبب انشغالهما المتواصل في السعي لتأمين متطلبات الحياة المادية وليس هذا فقط بل إن العولمة أسهمت في تعزيز قيم الاستقلالية الشخصية والاعتماد على الذات لدرجة أن الكثير من الشباب باتوا ينظرون إلى الزواج وتكوين الأسرة كعبء أو كمشروع غير ذي أولوية وهو ما يفسر ارتفاع نسب العزوف عن الزواج والطلاق في عدد من المجتمعات التي دخلت مرحلة ما بعد الحداثة التي تُعد الابن الشرعي للعولمة

أما على صعيد القيم فإن العولمة أفرزت ثقافة كونية تسعى إلى تعميم مفاهيم معينة مثل الحرية الفردية المطلقة والمساواة التامة بين الجنسين وإلغاء الفوارق الثقافية وهي مفاهيم قد تبدو في ظاهرها إيجابية لكنها في كثير من الأحيان تتعارض مع الخصوصيات الثقافية والدينية للمجتمعات المختلفة خصوصًا المجتمعات الشرقية والعربية والإسلامية ما يخلق نوعًا من التوتر القيمي داخل الأسرة الواحدة بين جيل الآباء الذي يعتز بثقافته المحلية وجيل الأبناء الذي ينفتح على ثقافات متعددة قد لا تنتمي إلى محيطه الاجتماعي وهنا تبرز أزمة الهوية التي تُعد من أخطر الأزمات التي تمر بها الأسرة في عصر العولمة إذ إن غياب الهوية الواضحة والمتماسكة يؤدي إلى هشاشة في الانتماء وارتباك في السلوك وضعف في الروابط الاجتماعية والأسرية

ورغم كل هذه التحديات فإن الأسرة لا تزال قادرة على الصمود والمقاومة شرط أن تعيد تعريف ذاتها ووظيفتها في ضوء التحولات الجارية فلا بد أن تتحول الأسرة من مؤسسة تقليدية مغلقة إلى نواة ديناميكية منفتحة قادرة على التفاعل الإيجابي مع العالم دون أن تذوب فيه وأن تعيد الاعتبار للقيم الجوهرية التي قامت عليها مثل المحبة والتفاهم والاحترام والتكافل وأن توظف أدوات العولمة نفسها لبناء وعي نقدي لدى أفرادها يمكنهم من التمييز بين النافع والضار وبين الأصيل والدخيل كما أن على الأسرة أن تنخرط في عملية التربية المستمرة القائمة على الحوار والمصاحبة لا على القمع والوصاية حتى تكون قادرة على مواكبة أبنائها في مسيرتهم نحو الاندماج الواعي في العالم الجديد الذي فرضته العولمة

فإن وجود الأسرة في ظل العولمة لا يمكن أن يكون مجرد استمرارية شكلية لبنية اجتماعية تقليدية بل يجب أن يكون مشروعًا متجددًا قائمًا على إدراك عميق لمخاطر العولمة وفرصها في آن معًا وعلى وعي جماعي بأن الحفاظ على الأسرة ليس مسألة خصوصية فردية بل هو رهان حضاري تتوقف عليه سلامة المجتمعات وتوازنها النفسي والثقافي والاجتماعي فبقدر ما تستطيع الأسرة أن تحافظ على قيمها الجوهرية وتتكيف في الوقت ذاته مع العالم المتغير بقدر ما تضمن لنفسها الوجود والاستمرارية في زمن لا يعترف إلا بمن يملك القدرة على البقاء دون أن يفقد ذاته .