الأديب رضا يونس يكتب: الانسحاب على الطريقة العصرية..


حينما كان الكبار يهمُّون بالرحيل، يفرشون الطريق بذكرياتهم، يباركون العابرين الجدد، ويبتسمون كمن يسلّم قلبه للريح مطمئنًا.
وكان القادمون يصغون بخشوع، يقبِّلون يد التجربة، وينحنون بحبّ أمام ظلال الذين عَبَّدوا لهُمُ السبيل. كان الرحيل طقسًا مقدّسًا، فيه من الإجلال بقدر ما فيه من الفقد.
أما الآن، فقد صار الانسحاب اقتلاعًا.
صارت القامات العالية تُدْفَع دفعًا خارج الحلبة، وكأنها عبء ثقيل لا بد من التخلُّص منه. لا وداع، لا تحية، لا عينٌ تدمع امتنانًا. صار الجيل الصاعد يتقدّم فوق الجسور التي شُيّدت له، ليهدمها وكأنها لم تكن، كأن لا أحد قبله حلم أو جاع أو سهر ليعبَّد الوديان التي صارت سبيلًا أملسَ يسير عليه الآن.
في قلوبهم شيء من الغضب، شيء من نكران الجميل.
وكأنهم ينتقمون من الزمن الذي لم يحضنهم حينًا، أو يسابقون الريح ليثبتوا وجودهم بأسرع مما تحتمله الذاكرة.
يخطفون المكان، وينسَوْن أن كل قامة جديدة هي امتدادٌ لما كان.
ينسَوْن أن الشمس لا تشرق فجأة، بل تأتي بعد ليلٍ طويل من السهر والعتمة والانتظار.
أحيانًا، حين أرى قاماتٍ عظيمةً تنسحب بصمت، أو تُدْفَع نحو الظّلال دون تحيّة وداع، أشعر أن الزمن قد فقد واحدًا من أسراره النبيلة: سر العبور الآمن بين الأجيال.
صرنا نُبدل الحكماء كما تُبَدَّل الأجهزة القديمة.
صرنا نخجل من الجذور ونحن نمدّ الأغصان نحو السماء.
وكم كان أجمل لو تذكّرنا أن الفجر لا ينكر ليلته الطويلة،
وأن كل بداية جديدة، لا تكتمل إلا إذا انحنت باحترام لأولئك الذين شَقُّوا الدُّروب الوعِرة بأقدامهم العارية.