الجمعة 22 أغسطس 2025 06:17 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

خالد درة يكتب : بالعقل أقول…( التحول السياسي في العالم العربي ..)

الكاتب الكبير خالد درة
الكاتب الكبير خالد درة

يقف العالم العربي اليوم على مفترق طرق سياسي حاسم ، تحفّه تحولات ديناميكية تهدف إلى إعادة رسم خريطة المنطقة ، في ظل توازنات جديدة للقوى الإقليمية و الدولية .. غير أن هذا المشهد الجديد لا يخلو من تحديات كبيرة ، إذ لا تزال جروح الصراعات مدى عقود عميقة في بنية الدول و المجتمعات ، مما يجعل من تحقيق الاستقرار و السلام هدفًا بعيد المنال في ظل التدخلات الإقليمية و الدولية ، و التوترات الطائفية ، والصراعات الداخلية التي تعوق بناء مستقبل مزدهر و مستقر ..

لقد تركت الحروب و النزاعات المسلحة آثارًا لا تُمحى على النسيج السياسي و الاجتماعي في العديد من الدول العربية .. تسببت هذه الصراعات بهشاشة المؤسسات الحكومية ، و انهيار البنى التحتية ، و تفاقم الأزمات الإنسانية ، بحيث باتت مشاهد الدمار و اللجوء والتشريد جزءًا من الواقع اليومي لملايين المواطنين .. هذه المشاهد ليست مجرد بيانات إحصائية أو عناوين ﻭ مانشتات صحافية ، بل هي حياة ملايين البشر الذين فقدوا منازلهم و أحبابهم و أملهم في مستقبل أفضل .. الحديث عن الحرب ، إذن ، هو أكثر من سرد مأسوي ، إنه تحذير سياسي عاجل يدعو إلى ضرورة وقف دوامة العنف ، و استعادة السيادة الوطنية ، و حماية الكرامة الإنسانية التي تضررت بشدة نتيجة للصراعات المستمرة ..

في مواجهة هذه الأوضاع المعقدة ، يسعى العالم العربي الجديد إلى رسم معالم سياسة متجددة ترتكز على بناء مؤسسات قوية و شفافة و ديموقراطية ، قادرة على إدارة التنوع الاجتماعي و الطائفي بدلاً من تعميق الانقسامات .. فالأجيال الجديدة التي نشأت في ظل العولمة و التقنيات الرقمية ، لم تعد تقبل أن تكون مجرد متلقية لسياسات تقليدية فاشلة ، بل تطالب بحكم رشيد و فرص اقتصادية حقيقية و مشاركة سياسية فعالة ، مما يفرض على الأنظمة السياسية التقليدية إعادة النظر في أدوارها ، و إجراء تحولات في موازين القوى بما يتناسب مع هذه المطالب .. من بين أبرز التحديات التي تواجه هذا العالم الجديد ، تعقيدات النظام الإقليمي و التدخلات الأجنبية التي تلعب دورًا في تأجيج الصراعات أو فرض أجندات سياسية تخدم مصالح ضيقة ، إضافة إلى الصراعات الطائفية التي تزداد استغلالًا لتكريس الانقسامات الداخلية .. كما أن الفوارق الاقتصادية و الاجتماعية تلعب دورًا كبيرًا في إشعال نار الاحتجاجات و المطالب الشعبية ، إذ أن البطالة و الفقر يفرضان ضغطًا إضافيًا على المجتمعات و تحديًا على الحكومات ..

في هذا السياق ، يلعب بعض الدول العربية الفاعلة مثل مصر ، و الإمارات ، و السعودية ، و قطر .. دورًا محوريًا في دعم استقرار المنطقة عبر جهود ديبلوماسية و اقتصادية ، و محاولة إعادة التوازن في العلاقات الإقليمية .. في المقابل ، تبقى دول مثل إيران و تركيا من القوى الإقليمية التي تسعى إلى توسيع نفوذها عبر دعم فصائل مختلفة في الصراعات الإقليمية ، ما يعقّد المشهد و يزيد من التوترات .. كذلك ، يبقى النزاع الفلسطيني -الإسرائيلي أحد القضايا المركزية التي تؤثر بشكل مباشر على استقرار المنطقة ، حيث تظل محاولات الحل السياسي هشة وسط استمرار التوترات .. على الصعيد الإقليمي ، تُعتبر الجامعة العربية و منظمة التعاون الإسلامي من أبرز المؤسسات التي تحاول جمع الدول العربية على منصة مشتركة للتشاور و حل النزاعات ، إلا أن محدودية صلاحياتها و غياب آليات تنفيذ فعالة يحدّان من تأثيرها الحقيقي .. أما الاتحاد الأوروبي ، فعلى رغم كونه شريكًا اقتصاديًا و سياسيًا مهمًا ، فإن سياساته في المنطقة تتأثر بمصالحه الاستراتيجية و الأمنية ، مما ينعكس أحيانًا على فعالية دعمه لعملية السلام والتنمية ..

و دوليًا ، فتلعب الأمم المتحدة دور الوسيط الأساسي في العديد من الصراعات العربية ، من خلال بعثات حفظ السلام و المفاوضات السياسية ، إضافة إلى عملها في المجال الإنساني .. لكن النجاح في تحقيق السلام الدائم يتطلب تعاونًا حقيقيًا بين القوى الكبرى ، و لاسيما منها الولايات المتحدة و روسيا ، اللتين تمتلكان تأثيرًا مباشرًا على مجريات الأحداث في المنطقة ، سواء عبْر دعم حكومات أو جماعات مسلحة .. برغم هذه التعقيدات ، فإن الإرادة السياسية الوطنية والإقليمية ، إلى جانب دعم المجتمع الدولي المسؤول ، فقد تفتح الباب أمام فرص حقيقية لتحقيق السلام و الاستقرار .. فهذه العملية معقدة ، و تتطلب حوارًا وطنيًا و إقليميًا جادًا ، و تنازلات سياسية كبيرة ، و إصلاحات مؤسسية حقيقية ، و إنهاء حالة الاستقطاب السياسي التي تعوق تحقيق المصالح الوطنية العليا .. و لا يمكن فصل البعد الإنساني عن الأبعاد السياسية عند الحديث عن تداعيات الحروب في المنطقة ، إذ أن فهم الأثر النفسي و الاجتماعي على المواطنين ، الذين عانوا من النزوح ، و الفقد ، و انهيار الأمان ، هو حجر الزاوية لصوغ سياسات تحترم حقوق الإنسان ، و تدعم العدالة ، و تعزز المصالحة الوطنية .. السياسة هنا ليست مجرد أداة لممارسة السلطة ، بل أمانة و مسؤولية عظيمة حيال شعوب عانت كثيرًا ، و يجب أن تُبنى على أسس من الشفافية ، و الإنصاف ، و الحوار ..

بينما نشهد هذا التحول السياسي في العالم العربي ، يجب أن نعي أن التحدي الأكبر يكمن في تحقيق توافق وطني و إقليمي شامل يقود إلى سلام مستدام .. هذا السلام لا يعني غياب الحرب فحسب ، بل هو بناء مؤسسات قوية ، و تعزيز التنمية الاقتصادية و الاجتماعية ، و احترام التنوع الثقافي و الديني ، و هو السبيل الوحيد لنزع فتيل الأزمات المتجددة التي تؤرق المنطقة ..
في هذا المشهد المعقد ، يوجه العالم العربي الجديد نداءً صادقًا إلى المجتمع الدولي أن يكون شريكًا فاعلًا يدعم سيادة الدول، ويشجع الحلول السياسية القائمة على الحوار و الاحترام المتبادل ، و يقف ضد كل أشكال التدخلات التي تهدد الاستقرار .. فمستقبل المنطقة لا يمكن أن يُكتب إلا بتضافر الجهود الوطنية و الإقليمية و الدولية من أجل عالم عربي مستقر ، مزدهر ، يسوده السلام و الكرامة لكل أبنائه ، بعيدًا عن صراعات أرهقت شعوبه لعقود طويلة .