د. القس جرجس عوض يكتب: جزيرة العميان


للأمانة العلمية، نُشير إلى أن هذه القصة نُشرت لأول مرة عام 1904 في صحيفة «ستراند» البريطانية بقلم الكاتب «هربرت جورج ويلز». وقد تحوّلت هذه القصة، مثل معظم أعماله، إلى أفلام، ومنها ما ينتمي إلى أدب الخيال العلمي. وقد قررت أن أعيد سردها بأسلوبي الخاص، مضيفًا إليها بعض الحبكات الفنية. كما أود أن أشير إلى أن المقصود من هذه القصة ليس فاقدي البصر، فمنهم أبطال تحدّوا الظلام في كل المجالات، بل إن الذين يفقدون البصيرة هم كثيرون وفي كل المجالات أيضًا.
تدور أحداث القصة حول مرض غريب انتشر في شبه جزيرة معزولة عن العالم ومحاطة بجبال «الأنديز»، فأصيب سكانها بالعمى. ومنذ ذلك الحين انقطعت صلة أهل الجزيرة بالعالم الخارجي، ولم يغادروا قريتهم قط. لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، بل تكيفوا وتعايشوا مع العمى، وأنجبوا أجيالًا عمياء، جيلًا بعد جيل، إذ إن المرض مستمر ويتوارثه الأبناء، حتى أصبح جميع سكان الجزيرة من العميان، لا يوجد بينهم بصير.
ذات يوم، بينما كان «نيونز»، أحد متسلقي الجبال، يمارس هوايته المحببة، انزلقت قدماه فسقط من قمة الجبل إلى شبه الجزيرة، غير أنه لم يُصب بأذى، إذ سقط على أعشاب الأشجار المغطاة بذرات الثلج. وبعد أن تمالك نفسه ونهض، لاحظ أن جدران منازل القرية بلا نوافذ، ومطلية بألوان غير متناسقة، وصارخة، وعشوائية، فقال في نفسه: “لا بد أن من بنى هذه البيوت رجل أعمى”. وحين توغل في عمق الجزيرة، بدأ ينادي الناس، لكنه لاحظ أنهم يمرّون بالقرب منه دون أن يلتفتوا إليه، معتمدين على حواسهم الأخرى: الشم، واللمس، والسمع. أدرك حينها أنه في “جزيرة العميان”.
واصل نيونز سيره حتى رأى مجموعة من السكان، فاقترب منهم وعرّفهم بنفسه وسألهم إن كان هناك من يبصر بينهم. فكان الرد: “ماذا تعني بالبصير؟ ما معنى هذه الكلمة؟” بدأ يحدثهم عن نفسه، وعن الظروف التي قادته إلى جزيرتهم، وراح يشرح لهم معنى البصر، وكيف أن في مدينته جميع الناس يبصرون. وما إن نطق بهذه الكلمة حتى انهالت عليه الأسئلة: “ما معنى أن يبصر الإنسان؟ كيف؟ وبأي وسيلة؟” فراح يوضح لهم معنى, لكن ما حدث بعد ذلك كان غير متوقع؛ إذ ارتفعت أصوات السخرية من كلامه، واستهزأوا بكلماته، وقال بعضهم: “علينا أن نأخذه إلى حكيم الجزيرة ليفحصه”.
فرح نيونز عندما سمعهم يذكرون الحكيم، وظن أنه سيفهمه، لكن خاب أمله، فقد كان الحكيم مثلهم، لا يعرف شيئًا عن البصر. فراح يشرح له كيف أن الإنسان يُميّز الألوان والأشكال والناس والحيوانات والنباتات، ويدرك حدود الأشياء… وان ما يسود علي الجزيرة هو مرض يمكن الشفاء منه لكن الحكيم هزئ به واتهمه بالجنون، وأمر بأخذه إلى حاكم الجزيرة.
تكررت فرحة نيونز حين سمع بوجود “حاكم”، وظن أنه سيجد فيه العقل والحكمة، ويقبل عرض الشفاء، لكنه صُدم من جديد، فالحاكم كان كغيره من سكان الجزيرة، فأمر بسجنه حتى “يعود إلى صوابه”. ثم جاء اقتراح من حكيم الجزيرة وقد أعجب به الجميع: إلا وهو أن سر هذيان نيونز يكمن فيما يدعيه من رؤية بعينيه، والحل هو أن يُزال هذا “الوهم” وذلك باقتلاع عينيه! هكذا، لا نخسر الرجل، بل نجعله واحدًا منّا! وقد نال هذا الرأي إعجاب الحاكم وسكان الجزيرة جميعًا.
وتآمروا عليه ليقلعوا عينيه …
لقد فشل بطل القصة “نيونز” في شرح معنى البصر، الفشل ليس في حجة نيونز لكن الفشل في نفوس اهل الجزيرة وهو رفض النور والتنوير
وكيف له ان يُقنع شعبًا لم يُبصر قط. وهنا وجد نفسه أمام خيارين: هل يهرب بحياته حفاظًا على بصره وروحه؟ أم يبقى ويبذل جهده، محاولًا أن يوقظ بصيرتهم، حتى لو خسر بصره أو حياته؟
عزيزي القارئ، أترك لك النهاية… ماذ تفعل لو كنت مكان نيونز؟
خلاصة القصة
إن “جزيرة العميان” ليست مجرد مكان ناءٍ في جبال الأنديز، بل هي كل مجتمع أو مؤسسة أو هيئة يسود فيها الجهل والفوضى والفساد والتخلف والعنف، وتطغى فيها صفات التعصب والخسة والخيانة، من أجل مصالح شخصية أو أفكار رجعية. هناك الكثير من المجتمعات التي لا تريد أن تبصر الحقيقة، بل يُبصرون ما يريدون فقط، ان يبصروه ويغفلون عمّا يريدون تجاهله.بل وكل دعوة تنويرية تُواجَه بالرفض، والريبة، وأحيانًا بالعنف، لأن سواد القلوب يتساوى مع سواد الضمائر والنوايا. فهم يُظهرون عكس ما يُبطنون.
يقبلونك بقبلة يهوذا ويحتضنونك وخناجرهم في ظهرك .
ويبقى السؤال:
ماذا ستفعل لو كنت مكان نيونز؟ ضع نهايةً لهذه القصة.
#د. القس/ جرجس عوض
كاتب ومفكر مسيحي