الجمعة 22 أغسطس 2025 06:16 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الاعلامي محمد جراح يكتب: الدين والسياسة فى مصر القديمة (3)

الاعلامي الكبير محمد جراح
الاعلامي الكبير محمد جراح

كان من الممكن أن تمضي الأمور على ما كانت تسير عليه في عصر الأسرة الثامنة عشرة، فالبلاد قد صارت امبراطورية مترامية الأطراف، والفيء والغنائم من الكثرة حتى ازدحمت بها مخازن المعابد وساحات الاحتفالات، وتنعم العرش ورفلت الحاشية في وشي الشرق التابع والدائر في فلك التاج المصري، وربما أثارت مظاهر الترف التي اختص أو استأثر بمعظمها الرب “آمون” ورجاله، فأثار ذلك كهنة وأتباع معبودات أخرى كان أبرزها ذلك الرب الأزلي المعروف باسم “رع” والذي كان القدماء يعدونه أباً لكل الأرباب.

كانت الثورة الأولى على “آمون” قد جاءت من داخل القصر، وقادها الملك الجالس على سدة الحكم المعروف باسم “أمنحوتب الرابع” أو “إخناتون” كما شاء أن يتسمى فيما بعد، حاول ذلك الملك أن يحد من نفوذ كهنة آمون وبعيداُ عن تفسيرات ونظريات قد لا يتسع مقام المقال لذكرها، فقد تصدى الملك للكهنة؛ وحاول أن يحجمهم فلم يرتدعوا، فما كان منه إلا أن استدعى مظهراً من مظاهر عبادة الشمس، وكان المستدعى هو رب قديم اسمه “آتون” فقدمه حتى جعله الأول، وأراد من خلال دعوة فيها من الإخلاص والنقاء أن يخلص العقيدة من كل شوائبها، فالإله “آتون” هو الخالق، وهو إله أو رب لا شريك له، وهو يطل على عبادة مشرق كل صباح، وتمتد أيديه من قرص الشمس لتبعث في نفوس المؤمنين السكينة التي تهديهم سبيل الجنة حيث الديار الأبدية والنعيم المقيم في حقول “إيارو”.
استدعى “اخناتون” ذلك المظهر وعمل عليه، والمثل يقول: “الناس على دين ملوكهم” فاستجاب له كثيرون، ولكن “إخناتون” مضى فشطح وغالى؛ وكان من الممكن أن يكون مثل جده “تحوتمس الرابع”، ولكنه وضع أساساً لديانة جعل من نفسه هو كاهنها الأوحد، فلا إله إلا “آتون” ولا كاهن إلاه، كان من المتوقع أن يتصادم مع كهنة وأتباع آمون فإما أن يوافقوه، وإما أن يعصوا، ولما ناوئوه لم يشأ حربهم بل تركهم وشرع في إنشاء عاصمته الجديدة ناحية تل العمارنة بالمنيا، وسماها “آخت آتون”، وانتقل إليها ومن حوله كل حاشيته وأتباعه الذين وافقوه، وبالطبع كانت تلك الهجرة خطيئة لا تغتفر لأنها هي من ساهمت في تقويض عرشه؛ وانتهاء حكمه بالطريقة التي تمت بها، لأنه أتاح بابتعاده لكهنة “آمون” أن يمرحوا ما شاء لهم أن يمرحوا في العاصمة القديمة، ويحشدوا ضده بكل سهولة، وقد حاول البعض رده عن فكرته غير مرة، ولفت انتباهه إلى المخاطر التي تحيط بالمملكة ومناطق نفوذها، ولكنه مضى مبالغاً وضارباً بكل نصيحة عرض الحائط.

وقد ظهرت من جديد في تلك الفترة قوى مناوئة لمصر سواء من “الميتانيين” أو “الحيثيين”، وجميعهم بدأ في مناوشة الممالك والإمارات التي تدور في فلك التاج المصري، وسقطت بعضها بالفعل في قبضة أولئك المعتدين، وقد ساءت تلك المستجدات أركان الدولة مثلما أرعبت أولئك التابعين والمتحالفين مع مصر، لكنه ظل في غفلة عما يدور من حوله ويتهدده حتى زاره وفد من أمراء دويلات الشام القديم طلباً لنجدة الجيش المصري؛ فانشغل عنهم بالصلاة إلى ربه حتى تبرموا من انتظارهم الطويل في الشمس الحارقة، وعبروا عن ذلك صراحة بأنه ما ذنبهم أن يتركوا هكذا منتظرين تحت وهج القيظ؟
في تلك الفترة أيضاً كانت هناك قوى طامعة في الداخل تمثلت في تلك الجالية المقيمة والتي كان يعمل عدد كبير منها في مرافق القصر المختلفة وهم “العابيرو”، أي أن العرش كان مهدداً من الداخل والخارج على السواء. وفي تلك الفترة زارت الأم ابنها ربما لإثنائه أو لكف جموحه، ولكنه صم أذنيه فلم يستجب لها ولا لغيرها، وأغلب الظن أنه تم تسمية “توت عنخ آتون” ملكاً وخلع أو شلح إخناتون ترتيباً على تلك الزيارة.

كان على الملك الجديد أن يتبرأ من آتون ومن كل شيء يربطه به، وكان أن قام بتغيير اسمه إلى “توت عنخ آمون”، بدلاً من توت عنخ آتون، وعاد إلى طيبة، ولكنه ذهب سريعاً ولم يعمر في العرش، ويقال إنه اغتيل على يد غرمائه، كما تحدث البعض فقالوا إنه ربما مات متأثراً بضربة فأس، فخلفه الملك “سمنخ كارع” وهو الآخر ذهب سريعاً في ظروف غامضة حتى تقدم “آي” الذي عمل بالكهانة، مثلما كان قائداً للجيش، واستطاع أن يكون الملك.
ساء ما يحدث في تلك الفترة المؤسسة العسكرية، وكان القائد “حور محب” هو قائد الجيش وبعيداً عن تفاصيل كثيرة فإنه تقدم إلى الأمام، واستطاع أن ينهي ذلك الترهل، وآل إليه الأمر، أي أن المؤسسة العسكرية استطاعت أن تفرض كلمتها وتنتشل البلاد من ضياع كانت تسير إليه وهي محاطة بمؤامرات في الداخل والخارج على السواء.

كانت الملكة “تي” حاضرة طوال ذلك التاريخ، وهي التي أدارت البلاد وقت أن كان زوجها لاهياً، وهي التي ساهمت في انهاء حالة الانقسام بزيارتها التي أتت بتوت ملكاً، وهي ربما من تواطأت فوافقت أن يأتي “آي” حتى استرد العرش القائد “حور محب” وصار هو الملك؛ وابتدأ على الفور في ترميم وبناء الداخل، وإعادة الاعتبار للدور المصري في الخارج، ويكفي أنه في فترته لم تتعرض مصر لما كانت تتعرض له من قبل وهو يوالي تأكيد القوة المصرية بين الحلفاء والتابعين حتى خلفه رمسيس الأول الذي أسس لأسرة جديدة هي الأسرة التاسعة عشرة وعصر الرعامسة، ومن بعده أتى “سيتي” ثم “رمسيس الثاني” الذي تصادم مع “خيتا” أو الحيثيين غير مرة حتى انتهى الأمر معهم باتفاق السلام الشهير.

محمد جراح مقالات محمد جراح الدين والسياسة فى مصر القديمة (3) الجارديان المصرية