حسين السمنودى يكتب : أحلام العاطلين.. بين مطرقة الواقع وسندان التجاهل


في قلب هذا الوطن، تقف جموع من الشباب على رصيف الانتظار.. ليس انتظار وسيلة مواصلات أو طابور رغيف، بل انتظار حلم اسمه "العمل".. انتظار طويل كالعمر، مؤلم كالعجز، بارد كليلة شتاء بلا مأوى.
العاطلون عن العمل في مصر ــ وغيرهم في بلادٍ عربية كثيرة ــ لا ينقصهم الطموح ولا الكفاءة، بل إن أحلامهم أوسع من السماء، لكنّ الواقع سدّ الأفق. شهاداتهم ملفوفة بعناية في درج الخذلان، وسيرهم الذاتية أصبحت أوراقًا يتيمة في أدراج الشركات، لا أحد يلتفت، ولا أحد يجيب.
الحكومات تتحدث عن مشروعات قومية وتوسعات تنموية وفرص استثمارية، لكن هذه الكلمات لم تهبط بعد على موائد العاطلين. الواسطة أصبحت جواز المرور لأي وظيفة، والمحسوبية سيدة القرار، وأصحاب المهارات الحقيقية يُطردون من أبواب الأمل لأنهم لا يملكون "ظهرًا" يحميهم.
تخرج الآلاف سنويًا من الجامعات والمعاهد، بعضهم يحمل أعلى الدرجات العلمية، وبعضهم الآخر يملك مهارات حقيقية في المهن اليدوية أو الحرفية، ولكنهم جميعًا يشتركون في صفة واحدة: "عاطلون". بعضهم تآكل من الداخل، وذبلت روحه تحت وطأة اليأس، وبعضهم يقاوم.. يقاوم الفقر، والنظرة المجتمعية، والإحساس بالعجز أمام الأسرة، والخوف من المجهول.
العاطل ليس متسولًا، وليس فاشلًا، وليس عالة على المجتمع كما يصوّره البعض، هو ببساطة "مشروع إنسان"، تعثر فقط لأن عجلة الفرص لا تدور إلا لمن يملك التزكية، أو يورث الوظيفة كما تورث قطعة الأرض.
أحلام العاطلين لا تقتصر على راتب شهري، بل تمتد إلى كرامة مهنية، وشعور بالانتماء، وقيمة شخصية. العاطل يحلم بأن يكون له مكان في الحياة، أن يعود من عمله مرهقًا لكنه منتج، لا جالسًا بلا جدوى يستمع لنصائح لا تشبع جوعًا ولا تملأ كفًا.
أما الدولة، فعليها أن تدرك أن البطالة ليست رقمًا في تقرير، بل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في وجه الاستقرار. عليها أن تفتح الأبواب للمبادرات الشبابية، أن تسهل الإجراءات، أن تحفز المشروعات الصغيرة، أن تعيد الاعتبار للتعليم الفني، وأن تزرع ثقافة العمل في كل عقل وبيت.
أما المجتمع، فعليه أن يتوقف عن جلد العاطلين بكلمات مثل "مالكش نفس؟"، أو "ما تشتغل أي شغلانة"، وكأن الكرامة أمر ثانوي، وكأن العمل المؤقت سيحل أزمة تراكمية.
وأما الإعلام، فعليه أن يكفّ عن تصدير نماذج وهمية لأشخاص أصبحوا أثرياء في أيام، فذلك لا يزيد العاطلين إلا إحباطًا، بل عليه أن يسلط الضوء على قصص الكفاح الحقيقي، وأن يكون صوتًا لمن لا صوت لهم.
رغم كل ما سبق، ورغم مرارة الانتظار، تبقى جذوة الأمل مشتعلة في قلوب العاطلين. فالشمس لا تغيب إلا لتشرق من جديد، والفرص قد تأتي من حيث لا نحتسب. ولعلّ الغد يحمل ما لم يستطع الحاضر أن يقدمه. شبابنا ما زالوا يملكون الحلم، والقدرة، والإرادة، وما دامت هناك عزيمة تسكن الأرواح، فإن لكل عاطل عن العمل بداية قادمة تحمل له بابًا يُفتح، وكرامة تُستعاد، ومستقبلًا يُبنى بسواعد لا تعرف اليأس.
العاطلون اليوم قد يكونون قادة الغد، وقد تخرج من بينهم عقول مبدعة تغيّر وجه هذا الوطن، فقط إذا أُتيحت لهم الفرصة العادلة. كم من مبدع دُفن تحت غبار التجاهل؟ وكم من نابغة خفت صوته في زحام "المعرفة الموروثة"؟ ومع ذلك، فإن في كل عاطل بذرة إنسان ناجح، تحتاج فقط إلى تربة خصبة، وبيئة راعية، ويد تمتد لتمنحه الفرصة، لا الشفقة.
إن الاستثمار الحقيقي ليس في الحديد والإسمنت، بل في الإنسان. هذا الإنسان الذي ينتظر أن يؤمن به وطنه، ويحتويه مجتمعه، ويشجعه إعلامه، ويصنع له الأمل مسؤولوه. لن يبقى العاطلون عاطلين إلى الأبد، فالتغيير قادم، والفرص ستولد، والشباب الصادق الحالم لا بد أن ينهض، وإن طال الغياب.
فلتكن أحلام العاطلين رسالة تذكير: أن الأمل لا يموت، وأن الأوطان القوية لا تُبنى إلا بأحلام أبنائها.. مهما طال الانتظار.