الإثنين 8 سبتمبر 2025 10:03 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

شحاته زكريا يكتب : غزة.. الجرح المفتوح ومعادلات الخطر الاستراتيجي

الكاتب الكبير شحاتة زكريا
الكاتب الكبير شحاتة زكريا

الحرب على غزة لم تعد مجرد صراع عسكري بين طرفين بل تحولت إلى جرح مفتوح في قلب المنطقة ، يختبر إرادة الشعوب ويكشف حدود القوة والضعف في النظامين العربي والدولي معا. فبينما تواصل إسرائيل عملياتها العسكرية يتضح أن الهدف لا يقتصر على إضعاف المقاومة أو فرض معادلة سياسية جديدة بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية نفسها بما يهدد الأمن القومي العربي والمصري على وجه الخصوص.

اللافت أن إسرائيل على الرغم من امتلاكها آلة عسكرية ضخمة تدرك أن الحسم الميداني الكامل في غزة سيكون مكلفًا إلى حد لا يُحتمل ولذلك تلجأ إلى سلاح أكثر خطورة من القصف نفسه: الحرب النفسية. عبر التحكم في شرايين الحياة من غذاء ودواء وكهرباء وماء تحاول أن تزرع الشك بين المقاومة وحاضنتها الشعبية ، وأن تدفع الناس دفعا نحو الضغط على الفصائل لقبول تسويات مجحفة. إنها محاولة لقتل الروح قبل الجسد ولخلق هوة داخلية قد تكون أخطر من كل الصواريخ.

لكن الخطر لا يقف عند حدود غزة. فما يجري اليوم يعيد إلى الأذهان سيناريوهات توسعية قديمة جديدة: السيطرة على القطاع قد تكون بداية لتصعيد الجبهة مع سوريا أو لزيادة الضغط على الأردن أو حتى لفتح الباب أمام مشاريع التوطين التي طالما حاولت تل أبيب فرضها. الأخطر أن هذه السيناريوهات تحمل في طياتها تهديدا مباشرا للأمن القومي المصري عبر سيناء والحدود الشرقية وهو ما يجعل المعركة ليست معركة الفلسطينيين وحدهم ، بل معركة وجود عربية شاملة.

ورغم قتامة المشهد ثمة ما يجب التوقف عنده: إن استمرار المقاومة وصمود الناس في غزة رغم القصف والجوع والحصار يكشف أن الكيان لا يملك رفاهية الحسم وأنه يظل عالقًا في معادلة الاستنزاف الطويلة. وهنا تكمن المفارقة: إسرائيل تسعى لإبقاء القطاع في حالة "لا حرب ولا سلم"، ساحة صراع دائم بلا نهاية بحيث تُنهك غزة ويُستنزف محيطها بينما يبقى الاحتلال في موقع المستفيد الذي يوزع الأدوار ويلعب بالوقت.

هذا الوضع يفرض على العرب – رسميًا وشعبيا – أن يتحركوا خارج دائرة التصريحات الروتينية. فالمعادلة اليوم لم تعد تحتمل بيانات شجب أو مواقف دبلوماسية باردة بل تحتاج إلى رؤية تتعامل مع غزة باعتبارها خط الدفاع الأول عن الأمن القومي العربي. المطلوب ليس فقط دعم إنساني عاجل بل أيضا موقف استراتيجي يحمي فكرة الدولة الفلسطينية ويمنع تحويل القطاع إلى ورقة ضغط دائمة بيد الاحتلال.

في هذه اللحظة بالذات تبدو مصر في موقع محوري. فهي الدولة الأكثر اتصالًا بغزة من حيث الجغرافيا والتاريخ والعمق الأمني وهي أيضًا الدولة التي تدرك أن استمرار النزيف هناك يعني انتقال التهديد إلى داخلها عاجلا أو آجلا. ولذلك فإن التحركات المصرية – سواء عبر إدارة ملف المساعدات أو محاولات الوساطة – ليست مجرد مبادرات إنسانية أو سياسية، بل هي تعبير عن وعي استراتيجي بأن حماية غزة تعني في النهاية حماية القاهرة.

أما على الصعيد الدولي فالمشهد لا يقل التباسًا. فالقوى الكبرى تكتفي بالحديث عن "التهدئة" و"المساعدات الإنسانية"، بينما يغض كثيرون الطرف عن مسؤولية الاحتلال كقوة قائمة على الأرض. هذه الازدواجية تُطيل أمد الصراع وتسمح لإسرائيل بمواصلة مشروعها التوسعي دون رادع حقيقي. ومع ذلك فإن تعاظم الرفض الشعبي في العالم والاحتجاجات التي تملأ عواصم أوروبا وأمريكا تكشف أن الرواية الصهيونية لم تعد مطلقة السيطرة كما كانت من قبل.

الخطر الاستراتيجي الأكبر إذن لا يكمن فقط في القنابل التي تسقط، بل في تحويل غزة إلى ساحة صراع أبدي في أن تصبح القضية الفلسطينية ملفًا مؤجلًا إلى ما لا نهاية تُستخدم فيه دماء الأبرياء كوقود لمشاريع سياسية أكبر. ذلك الخطر يعني إنهاك القطاع إنهاك مصر إنهاك الإقليم كله بينما يبقى العدو بمنأى عن أي محاسبة.

لكن التاريخ يعلمنا أن الشعوب، مهما ضعفت أو جاعت لا تستسلم بسهولة. غزة أثبتت أنها قادرة على قلب الموازين لا بالقدرة العسكرية وحدها بل بالصمود اليومي في مواجهة آلة حرب لا ترحم. وإن كانت إسرائيل تراهن على كسر الإرادة الفلسطينية، فإن ما يجري حتى الآن يكشف عكس ذلك: كل بيت يُقصف يولّد بيتًا آخر أكثر تمسكا بالأرض وكل شهيد يفتح نافذة أوسع للأمل.

إن المعركة في جوهرها ليست فقط معركة حدود بل معركة هوية ووجود. ومهما حاولت إسرائيل أن تفرض "سلامًا بالقوة" أو "هدنة بالابتزاز"، فإن الحقيقة الراسخة أن فلسطين ليست ورقة تفاوض بل قضية حياة وأن غزة رغم كل شيء ستبقى حجر العثرة الأكبر أمام المشروع الصهيوني. وهنا تتضح مسؤولية العرب: إما أن يتعاملوا مع غزة باعتبارها ساحة اختبار لإرادتهم ومستقبلهم أو أن يتركوا الجرح ينزف حتى يصل النزيف إلى قلبهم هم أنفسهم.

شحاته زكريا غزة.. الجرح المفتوح ومعادلات الخطر الاستراتيجي الجارديان المصرية