خالد درة يكتب : بالعقل أقول…( قمة قطر بين الرغبة و الإمتناع …! )


من الغرابة أن يتصور رئيس وزراء قطر أن بإمكانه إقناع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمحاسبة إسرائيل ، أو دفع بعض الإدارات الأميركية إلى إدانة القصف الإسرائيلي الذي استهدف قادة حماس المقيمين في الدوحة ، متناسياً أن الذين سيتحدث معهم هم أنفسهم الذين أعطوا الضوء الأخضر لتل أبيب لتنفيذ تلك الضربات ، فالمعادلة واضحة ، الأمر لا يقتصر على قطر وحدها ، بل يشمل كل دولة تُؤوي قيادات حماس و تمنحهم الغطاء السياسي و الإعلامي ، هذه المرحلة انتهت ، و أي نظام يغامر بالاستمرار فيها سيجد نفسه في مواجهة مباشرة مع واشنطن و تل أبيب معاً ..
و يتناسى رئيس الوزراء القطري أنَّ ترامب كان قد أنذر قيادة حماس مرتين على الأقل ، و طالبها بشكل واضح بالإفراج عن المحتجزين و الخروج من قطاع غزة ، و إلا فإن الحركة و من يحميها سيكونون عرضة لضربات موجعة ، كما يتجاهل حقيقة أن قطر تضم واحدة من أكبر القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة ( قاعدة العديد الجوية )، إلى جانب قاعدة عسكرية تركية بموجب اتفاقية دفاع مشترك بين الدوحة و أنقرة ، و مع ذلك لم يتحرك أي منهما لوقف أو حتى للاعتراض على الضربات الإسرائيلية ، كلا الطرفين ، واشنطن و أنقرة ، التقطا مسيّرات إسرائيل منذ لحظة إقلاعها ، لكنهما تركا المشهد يمرّ و كأن شيئاً لم يكن .. و للمفارقة ، فإنَّ الطائرتين الرئاسيتين اللتين أهداها الأمير للرئيس التركي رجب طيب أردوغان و ترامب لم تشفعا لقطر و لم تحمياها من هذا الإحراج الدولي ، فذهبتا هباءً سياسياً ..
إنَّ على قطر أن تعيد النظر في سياستها و استراتيجيتها ؛ فهي في العقد الأخير لعبت دوراً بالغ السوء عبر دعمها المباشر أو غير المباشر للمنظمات التكفيرية المتطرفة في أكثر من دولة إقليمية ، لم تكن أدوارها أقل خطورة من أدوار تركيا التي دعمت جماعات متشددة ، و ساهمت في تغلغل داعش ، و سهّلت عمليات احتلال عفرين و كري سبي و سري كانيه ، بكل ما رافق ذلك من جرائم و دمار و تهجير ، و هكذا تشكّلت بين قطر و تركيا واحدة من أهم نقاط التقاطع ، دعم الإسلام السياسي و الجماعات الراديكالية كسلاح جيوسياسي لتوسيع النفوذ ..
لكن التجربة أثبتت أنَّ هذا النهج ينتهي دوماً إلى ارتداد عكسي .. فكما انتهى نفوذ داعش عسكرياً في 2019 تحت ضربات التحالف الدولي بقيادة أميركا ، و كما تآكلت أوراق إيران عبر ميليشياتها و أذرعها في المنطقة ، فإنَّ قطر و تركيا ستجدان نفسهما في الدائرة ذاتها ، حين تتحول أدواتهما من أوراق ضغط إلى عبء يهدد استقرارهما و يكشف هشاشة سياساتهما أمام القوى الكبرى ..
فالمعادلة باتت أوضح من أي وقت مضى ،
مشروع حماس انتهى ، و حزب الله يترنح في نهاياته ، و أدوات إيران في المنطقة استُنزفت بعد أن أدت دورها التاريخي الذي بُني منذ ثمانينيات الثورة الخمينية ، هيمنة طهران عبر أذرعها الميليشياوية في غزة و لبنان و العراق و اليمن وصلت إلى مرحلة الانكسار ، بعد أن تحولت تلك الأذرع من أدوات ضغط إقليمية إلى عبء استراتيجي يُستنزف في صراعات جانبية ..
في المقابل .. أخذ الدور التركي بالبروز على الساحة ، مستخدمًا أدوات الإخوان المسلمين و الفصائل المتطرفة التي رعتها أنقرة خلال العقد الأخير ، كما فعلت في سوريا و ليبيا ، و من المرجح أن يتم التعامل مع هذه الأدوات بالأسلوب ذاته الذي جُرّب مع أدوات إيران :و هو السماح لها بالتمدد ضمن حدود محسوبة ، ثم إعادة ضبطها و تحجيمها و الحد من تجاوزاتها قبل أن تتحول إلى تهديد استراتيجي موازٍ .. لقد باتت لدى واشنطن و تل أبيب خبرة تراكمية في إدارة هذا النوع من القوى التكفيرية المتطرفة : يتم جمعها أو تركها تتجمع في مناطق محددة برعاية قوى إقليمية ، ثم تُستنزف و تُصفى لاحقًا بالتعاون مع تلك القوى ذاتها ، بمجرد أن تتجاوز الخطوط الحمراء للأمن الأميركي و الإسرائيلي ..
أمَّا قمة الدول العربية الطارئة في قطر، التي يُروّج لها كحدث تضامني كبير ، فلن تتجاوز حقيقتها كونها مناسبة بروتوكولية لأداء واجب التعزية و إظهار الحد الأدنى من التضامن العربي .. غير أنَّ ما سيجري في الأروقة المغلقة خلف القاعات الرسمية سيكون أكثر جدية و حسمًا : ستُبلَّغ قيادة حماس المتبقية بضرورة القبول بشروط واشنطن ، و إطلاق سراح الرهائن ، و الخروج من قطاع غزة ، و ربما حتى وضع السلاح تحت إشراف السلطة الفلسطينية ، شرط أن توافق إسرائيل على هذه الصيغة ..
و البيت الأبيض ، من جانبه ، لن يغيّر قواعد اللعبة ، بل سيكرر أوامره عبر القناة القطرية ، و على الدوحة أن تقوم بدور الوسيط التنفيذي الأقرب لحماس ، دون أن تملك سلطة القرار ، فالقرار يبقى في واشنطن و تل أبيب ، أما قطر فستظل مجرد ناقل للتعليمات ، بالرغم من كل ما حاولت أن تبنيه من نفوذ عبر احتضانها للحركات الإسلامية المتطرفة ..
و هكذا ، فإنَّ مصير حماس و غيرها من الحركات المؤدلجة ، سواء رفعت شعار التحرر أو غلّفته بعباءة الدين ، لا يختلف في جوهره عن مصائر سابقيها .. فالكثير من هذه التنظيمات تدخل في غيبوبة سياسية و فكرية ، أسيرة الغرور و التباهي بالذات ، فتتوهم أنها قادرة على مواجهة قوى لا تقاس بها ، و تغرق في جغرافية ضيقة تحصر نفسها فيها .. و غالبًا ما يكون الانتحار إمّا بالسقوط في مستنقع الضياع ، أو بالتدحرج من القمة التي صنعتها لنفسها إلى حضيض لم تكن تتخيله ..
فالمأساة ليست في سقوطها وحدها ، بل فيما تجرفه معها من دمار داخلي لشعوبها التي تزعم الدفاع عنها .. فهي في الواقع تحارب من أجل أنانية عمياء ، غارقة في ظلمات التيه ، غير مدركة لقدراتها الفكرية ، أو العسكرية ، أو الثقافية ، أو السياسية ، و هكذا تتحول معاركها إلى صراعات عبثية ، و تتحول شعاراتها إلى جسر نحو نهايتها المحتومة .