د.ريهام نبيل حفناوي تكتب: مطعم الأحلام


الحياة اختيارات ... فأحسنوا الاختيار فكلنا سنصل إلى المقر الأخير!
إلى غزلان عالمنا: اصمدوا!
صادفتني عند مطالعتي قصة تراثية في الأدب الغربي تٌروى للأطفال ... استوحيت منها قصتي اليوم ... فهي قصة دجاجة معروفة بذكائها وحيلتها، وديك لا يملك إلا الصياح، وغزالة مجتهدة ذاع صيتها في العطاء والتضحية.
في يوم مشمس على ضفاف نهر هادئ في غابة الأحلام، التقت الدجاجة "ماكرة" بالغزالة "معطاءة" وكانت الغزالة جالسه تفكر، شارده الذهن، عندما سألتها الدجاجة فيمَ تفكر؟ فأجابتها قائله: «أبحث عن فكرة عظيمة أجني منها مالاً بعد تعب، وثواباً بعد عمل". هنا، قالت الدجاجة دون تفكير: "لقد أتيت اليوم لك لأعرض عليك خطة رابحة لمشروع لا مجال فيه للخسارة"... فلمعت عينا الغزالة وانتبهت لحديث "ماكرة"... ودون توقف، كشفت الدجاجة عن فكرتها في كلمتين ... وفي الإيجاز صدمة... سنفتح مطعما يطعم كل الغابة، وسيكون اسمه من عمله ... "لحم غزال وبيض دجاج"!!!!
هنا سكت الكلام! وتذكرت مسرور السياف، ذلك الصوت الذي يعيدنا دوما من عالم الخيال إلى أرض الواقع. بقيت أياما أفكر في المضمون، فوجدت أنها ليست مجرد فكرة قصة، بل مرآة عاكسة لعالمنا الواقعي، حيث الصور العبثية التي تجسد مطعم الأحلام.
في عالمنا، تجد من يقطع من لحمه ليجتهد لإنجاح الأفكار، وآخرين يقنعون بالبيض فقط، وهناك من يملأ الدنيا صياحا دون أن يساهم في شيء، لكنه يريد أن يوثق أوهامه بأنه يعمل. هذه الأدوار ليست شخصيات في قصة خيالية، بل نماذج بشرية متكررة في مؤسساتنا ومجتمعاتنا: هناك من يتحمل التضحية من أجل النجاح الجماعي، دون أن يهتم بمن سيحصل على الجائزة في الصورة النهائية، وهناك من يستفيد من جهود الآخرين دون مساهمة، وهناك من يملأ العالم بالضجيج دون إنتاج حقيقي.
هذا العبث ليس بعيدا عن إشكالية اقتصادية معروفة باسم free-Rider (الراكب المجاني). هذه الظاهرة تحدث عندما يستفيد الأفراد من موارد مشتركة أو سلع عامة دون أن يدفعوا نصيبهم العادل من تكلفتها أو يساهموا في الحفاظ عليها. النتيجة؟ استهلاك مفرط للموارد العامة، مما يؤدي في النهاية إلى فشل المنظومة أو الخدمة التي تهدف لخدمة المجتمع بأكمله. إشكالية لا تترك فريستها إلا وهي جثة هامدة.
وبتفسير أيسر، تخيل مركبة تقلع محملة بالركاب، من مكان إلى مكان، وعلى متنها راكب مجاني يدعي الشطارة وقد تهرب من دفع مقابل التذكرة بشكل أو أخر ولم يشعر به أحد ... الآن هذا الراكب سيصل مع جميع الركاب الذين تكلفوا من مالهم مقابل رحلتهم وسيصل معهم بالتحديد إلى نفس الوجهة.
لو تأملنا تاريخ تطور أو تدهور العديد من الهيئات والمؤسسات، سنجد جزءا كبيرا من أسباب فشلها يكمن بين الروايتين السابقتين: افتقاد الإخلاص الجماعي حتى أن البعض بدأ أن يطلق عليه "شكليات" لن تعود عليه بمصلحة مباشرة، وزاد في المبررات بقوله: "المستفيد من إنجاح الفكرة الجميع، فهناك غيري سيعمل، والعائد سيعود للجميع. فلماذا (اقطع من لحمي) إذا كان هناك فرص للصياح مثل الديك دون أن يشعر أحد بالفارق؟
وأرى أن هذا المبدأ الخبيث توطن في مؤسساتنا، ولم يعد مجرد استثناء، بل أصبح قاعدة. لأن جزءا كبيرا من العدالة في توزيع المهام قد اختفى. عند كل فكرة تحتاج إلى مجهود، نبحث عن "الغزال" الذي يضحي حتى الموت من أجل إنجاح الفكرة، ونكتفي من "الدجاج" بما يقدمه، باعتبار أن هذا كل إمكانياته في العطاء، ونترك "الديوك" تملأ الأرجاء صياحا دون إنتاج، والعجيب أن صياح الديوك يصل للسحاب ويعجب جماهير الديوك!
الغريب فيما سبق أن أبطال القصتين نسوا أن هناك مُطلعا، وهناك قوانين إلهية لا تخضع لمبررات البشر حيث يقطن المغزى في اليقين بقول الله تعالى "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" [ التوبة: 105]. وتبقى الحقيقة العارية أن المسرح العبثي لم يقتصر على حدوده الزمنية في سبعينيات القرن الماضي، بل تجاوزها ليتفوق بصوره وتقنياته في عروض متميزة على مسرح حياتنا الواقعية. كما شهد بها ألبير كامو في أسطورة سيزيف: "العبث لا يعني عدم المعنى، بل البحث عنه في عالم لا يضمنه".
في الختام، نجد أنفسنا أمام تحد وجودي: كيف نبحث عن المعنى الحقيقي في عالم ملئ بالعبث؟ كيف نبني مجتمعا يقوم على العدل والتعاون والحب، بدلا من الأنانية والاستغلال والصياح؟
فلنبدأ بأنفسنا أينما كنا، ولنتذكر دائما أن كل عمل – حتى لو كان صغيرا – يساهم في بناء مجتمع عادل متوازن.
إن كل خفايا القلب – خيرا كانت أو شرا- عند الله.
لنكن غزلان هذا العالم.