طارق محمد حسين يكتب : عودةالشهيد الحي .


في قرية الشون الهادئة التابعة لمحافظة كفر الشيخ المصرية، وحيث تمتد الحقول الخضراء تحت سماء صافية ، كانت أسرة المقدم ( إبراهيم عبد العزيز زيادة) في أعقاب نصر أكتوبر ١٩٧٣ تعيش أيامًا عصيبة حزينة ، فقد وصلت أنباء مؤلمة إلى الأسرة: إبراهيم البطل الشجاع استشهد في المعارك الضارية على أرض سيناء ، ووصلت وثيقة شرف من إدارة شؤون الضباط، وشهادة وفاة تحمل اسمه ، لتطوي صفحة حياته في نظر أسرته واهالي قريته ، كالعادة أقيم العزاء في القرية وانهارت زوجته حزنا تحت وطأة الصدمة، فقد تركها إبراهيم مع ثلاثة أبناء صغار ، أزهار لم تتفتح بعد ، لكن قلب الأب الحاج عبد العزيز، ظل ينبض بأمل غامض ، كأن صوتًا داخليًا يهمس له: "ابنك حي" فقد
طلب الحاج عبد العزيز من ابنه الأصغر أنور ، الضابط في القوات المسلحة ، أن يبحث عن جثمان شقيقه ، سافر أنور إلى سيناء بصحبة الصليب الأحمر ، يفتش في كل ركن في صحراءها ، لكنه عاد خالي الوفاض، ومع مرور الأيام بدأ الأمل يتلاشى والاستسلام للواقع ، بدأت الزوجة تستلم معاش الشهيد ، وحياة الأسرة استمرت وسط حزن عميق ، حتى بدا أن القدر قد حسم أمره ،
لكن في مارس ١٩٧٤ ، جاء حاملاً معه مفاجأة لم يتوقعها أحد في تلك الأيام التي تفوح فيها الحياة برائحة الزهور ، عاد إبراهيم عبد العزيز زيادة إلى الحياة، كأن الأرض أبت أن تحتفظ به بعيدًا عن أهله ، ففي السادس من أكتوبر ١٩٧٣ العاشر من رمضان ، هبط إبراهيم مع مجموعة من رجال الصاعقة المصرية في وادي فيران بجنوب سيناء ، محمولين بطائرة هليكوبتر ، هناك كتبوا ملحمة بطولية، حيث تصدوا لأتوبيس يقل ستين ضابطًا إسرائيليًا ، فدمروه بمن فيه. لكن العدو أدرك وجود قوة مصرية جريئة ، أرسل طائراته للبحث عنهم، وقعت المجموعة في قبضة العدو ، قُتل بعضهم وأُسر آخرون، لكن إبراهيم بذكائه وشجاعته اختفى كالظل في مغارة ببطن جبل ، في تلك المغارة عاش إبراهيم أيامًا وليالي قاسية ، نفد الماء والطعام ، فاضطر لتناول الحشرات وشرب بوله ليبقى على قيد الحياة، لكنه لم ييأس أو يستسلم ، فكان يخرج ليلاً يشن هجمات فردية على عربات العدو وجنوده، ثم يعود إلى مخبأه ثانية ، أدرك الإسرائيليون أن بطلًا مصريًا مجهولا كالشبح لا يزال يقاوم، فكثفوا بحثهم عنه بطائرة حلقت على ارتفاع منخفض ، ترصد المنطقة بدقة، لكن إبراهيم ظل عصيًا على الأسر، ذات يوم التقى إبراهيم ببدوي من ابناء سيناء، أمده البدوي بجلباب جعله يبدو كأحد أبناء الصحراء ،تحرك بحرية مختبئًا في العلن، وواصل عملياته البطولية، ووصلت شهرته إلى العدو، الذي رصد مكافأة ضخمة لمن يدلي بمعلومات عنه، بعد أن عثروا على رسالة كتبها لزوجته يروي فيها بطولاته.لكن إبراهيم ظل بعيد المنال عنهم، في إحدى اللحظات صادف إبراهيم مجموعة من الجنود المصريين الذين ضلوا طريقهم فانضم إليهم، وكونوا فرقة صغيرة هاجمت مخازن العدو في وادي فيران ، وفي موقف دراماتيكي، استوقفه ضابط إسرائيلي وسأله عن هويته ، وبلهجة سيناوية خالصة، وبلحية طويلة أكسبته مظهر البدوي، أجاب إبراهيم أنه من قبيلة محلية. سأله الضابط عن "إبراهيم زيادة"، "المجرم" الذي يهاجم جيشهم ، أنكر إبراهيم معرفته به بينما السلا.ح مخبأ تحت جلبابه، لو فتشه الضابط لكانت نهايته، لكن يد الله القدير حمته، واستمر إبراهيم في عملياته يدمر الدبابات والعربات للعدو، حتى أعلن وقف إطلاق النار، عندها قرر العودة إلى مصر . استطاع الوصول إلى مجموعة مصرية على الضفة الشرقية لقناة السويس، سلم نفسه إليهم، ومن السويس، عاد إلى قريته الشون. استقبله أهله وسط زغاريد وفرحة عارمة، كأن الزمان نفسه يحتفل بعودةالبطل،كرّمت مصر بطلها، فرقي إلى رتبة العميد ، ونال أوسمة عديدة تقديرًا لشجاعته. عاش إبراهيم حياة حافلة بالفخر، حتى رحل عن عالمنا في عام ٢٠٠٤ بعد صراع مع المرض، تاركًا إرثًا من البطولة سيظل خالدًا في قلوب المصريين.