شحاته زكريا يكتب : الإعلام الجديد.. صناعة الرأي أم صناعة الخوف؟
في عالم لم يعد يعرف الصمت أصبح الإعلام الجديد هو الأوكسجين الذي نتنفسه كل لحظة. ملايين التغريدات مليارات الفيديوهات وأخبار تتوالد كالفطر في كل ثانية. ظاهريا ، يبدو أننا نعيش عصر الحرية المطلقة في تداول المعلومة. لكن خلف هذه الفوضى المنظمة يطلّ سؤال أكثر عمقا وقلقا: هل ما يُسمى بـ “الإعلام الجديد” يصنع الوعي أم يصنع الخوف؟
حين بدأت ثورة الاتصالات قبل عقدين بشّرتنا التكنولوجيا بعصر الديمقراطية الإعلامية. كل شخص يمكن أن يكون صحفيا وكل هاتف كاميرا وكل تغريدة منبر. بدا الأمر كأنه تحرّر من احتكار المؤسسات الكبرى للمعلومة والرأي. غير أن التجربة سرعان ما كشفت الوجه الآخر: تحوّل الإعلام الجديد إلى منظومة ضخمة تُعيد تشكيل العقول لا بتحريرها بل بإغراقها في كمّ من المعلومات المتناقضة بحيث يصبح من المستحيل التفرقة بين الحقيقة والوهم.
لم يعد الخطر في أن تُمنع من الكلام ، بل في أن تتكلم فلا يسمعك أحد وسط ضجيج الخوارزميات. المنصات لا تُتيح الفرص للجميع كما يُقال بل توزّع الانتباه وفق معادلات خفية تُكافئ الإثارة وتُعاقب العمق وتُكرّس الخوف كوقود للمشاهدة. الأخبار الصادمة والمشاهد الدامية والفضائح السريعة هي ما يرفع “الترند”، وما دونها يُدفن في الظلّ. وهكذا أصبح الإعلام الجديد مرآة للغرائز أكثر منه نافذة للعقول.
المفارقة الكبرى أن هذه المنصات التي وُلدت باسم الحرية صارت أدوات غير معلنة للتحكم الجمعي. الخوارزميات تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا تُقدّر ما نحب وما نخافه وتبني على ذلك “فقاعة إدراكية” لكل مستخدم يعيش داخلها. ترى ما تريد أن تراه وتُصدّق ما يؤكد أفكارك السابقة وتُعاد تغذيتك يوميا بمحتوى يعزّز خوفك وغضبك وقلقك لأن الانفعال يعني التفاعل والتفاعل يعني أرباحا.
بهذه المعادلة البسيطة تحوّل الإعلام الجديد من أداة تواصل إلى أداة تشكيل سلوك جماعي. لم تعد المعلومة غاية بل وسيلة للتحكم في المشاعر. من خلال العناوين الموجهة والصور المقطوعة من سياقها والمحتوى القصير المشحون بالدراما يُعاد بناء وعيٍ سريع الزوال، هشّ، متقلب، لا يحتمل التفكير الهادئ. إنها صناعة متقنة للرأي — ولكن عبر الخوف لا عبر الفهم.
ولأن الخوف يُنتج الطاعة فقد صار أكثر ما يُباع في السوق الإعلامي هو القلق: الخوف من المرض، من الآخر، من الغد، من الفقر، من فقدان المكانة أو الهوية. هكذا يُعاد تشكيل وعي الشعوب لتبقى في حالة قلق دائم. المواطن المذعور لا يناقش، بل يصدّق؛ والمجتمع الخائف لا يبتكر بل يبحث عن منقذ. إنها آلية ناعمة للسيطرة ، لا تحتاج إلى رصاصة واحدة.
اللافت أن هذه السيطرة لم تعد حكرا على الحكومات كما في الماضي ، بل صارت بأيدي شركات خاصة لا تخضع لأي رقابة سياسية أو أخلاقية. شركات تعرف عن المستخدمين أكثر مما تعرفه الدول عن مواطنيها ، وتتحكم في أولويات الأخبار واتجاهات الرأي العام عبر برمجيات لا تُسأل عمّن كتَبها ولا لمن تخدم. إنها القوة الجديدة غير المرئية ، التي تُدير العالم من خلف الشاشة.
ومع ذلك لا يمكن إنكار أن الإعلام الجديد قد منح الصوت لمن لا صوت لهم وكشف فسادا وأسقط أنظمة وأعاد تعريف العلاقة بين المواطن والسلطة. لكنه في الوقت ذاته فتح أبوابا للفوضى الفكرية وصار الميدان مفتوحا لكل من يملك مهارة التأثير لا شرط المصداقية. في هذا العالم المزدحم تختلط الحقيقة بالترفيه، والخبر بالدعاية، والمعرفة بالإدمان.
الخطر الأكبر أن الإنسان نفسه يتحوّل إلى سلعة. بياناته تُباع ومشاعره تُستثمر وسلوكه يُعاد توجيهه في كل لحظة. وكلما ازداد اعتماده على المنصات ، قلّت قدرته على التفكير المستقل. فالعقل الذي يتغذى بالمحتوى السريع يفقد تدريجيا صبر الفهم العميق والذاكرة الطويلة والإحساس بالتاريخ. وهكذا يصبح المجتمع أسرع في ردّ الفعل ، أبطأ في الوعي، وأكثر عرضة للتلاعب.
الإعلام الجديد ليس شيطانا مطلقا ولا ملاكا منقذا لكنه كالقوة النووية: يضيء المدن أو يحرقها. القضية ليست في التكنولوجيا ، بل في من يملكها وكيف يُديرها. المطلوب اليوم ليس محاربة المنصات ، بل امتلاك القدرة على استخدامها بوعي ، وتربية جيل يدرك أن المعلومة ليست بالضرورة حقيقة وأن المشاركة لا تعني الفهم وأن الحرية الرقمية بلا وعي نقدي ليست سوى شكل آخر من العبودية الحديثة.
لقد حان الوقت لأن يتحول الإعلام من صناعة الخوف إلى صناعة الفهم. أن يُكافأ المحتوى العميق لا المثير وأن تعود الأخلاق إلى معادلة التأثير وأن يدرك المستخدم أن “الإعجاب” ليس رأيًا وأن “المشاركة” ليست مسؤولية. فالمستقبل الإعلامي لن يُقاس بعدد المتابعين بل بقدرة الإنسان على تمييز الحقيقة من الوهم في عالم يُغرقه الضجيج.
إن معركة الوعي اليوم لا تُخاض في الميادين ، بل على الشاشات. والمنتصر فيها ليس من يصرخ أعلى بل من يفكر أعمق. الإعلام الجديد يملك كل أدوات السيطرة لكن الإنسان ما زال يملك ما هو أعظم: عقله، وضميره، وحقه في أن لا يُخاف بل يُفكّر.












**رجال المباحث يواصلون حملاتهم لضبط الأمن بالمنطقة وسط إجراءات احترازية مكثفة**
إنقاذ بطولي في القليوبية: الحماية المدنية تنتشل سيارة سقطت بالكامل في ترعة
إخلاء سبيل طلاب نشبت بينهم مشاجرة داخل كمبوند بالتجمع
تجميد نشاط 4 عناصر جنائية غسلوا 70 مليون جنيه من تجارة المخدرات
توقيع اتفاقية مصرية إيطالية لإنتاج الغاز الحيوي ودعم الطاقة النظيفة
اسعار الذهب اليوم خارج مصر
أسعار الدولار أمام الجنيه اليوم الاثنين في مصر
أسعار الذهب في مصر اليوم الأحد 19 أكتوبر 2025