الخميس 30 أكتوبر 2025 09:28 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

حسين السمنودى يكتب : الدراما التركية بين الواقع والخيال

الكاتب الكبير حسين السمنودى
الكاتب الكبير حسين السمنودى

الدراما التركية أصبحت اليوم ظاهرة فنية عالمية، تتجاوز حدود الجغرافيا والثقافة، وتصل إلى قلوب المشاهدين في الشرق والغرب على حد سواء. فمنذ انطلاق موجتها القوية في أوائل الألفية، اجتاحت الشاشات العربية بموضوعاتها الجريئة، وقصصها العاطفية، وإنتاجها الفخم الذي يجمع بين الجمال الطبيعي والتمثيل المتقن والموسيقى الساحرة. لكن خلف هذه الصورة اللامعة، يبقى سؤال مهم يفرض نفسه: هل ما تقدمه الدراما التركية يعكس الواقع التركي الحقيقي، أم أنه عالم خيالي من صنع المخرجين لجذب العيون وتحقيق الشهرة والربح؟

الواقع أن كثيرًا من المسلسلات التركية تبني عوالمها على الخيال أكثر من الحقيقة، فالمشاهد يرى مجتمعات حالمة مليئة بالحب والرومانسية الهادئة، حيث ينتصر العشق دائمًا، وتتحول المآسي إلى قصص جميلة تنتهي بالسعادة أو البطولة. ومع ذلك، فإن الواقع التركي — مثل أي مجتمع آخر — يحمل في طياته صراعات اجتماعية واقتصادية وسياسية معقدة لا تظهر في تلك الأعمال إلا نادرًا وبصورة سطحية. وكأن الدراما تحاول رسم صورة مثالية تُبعد المشاهد عن قسوة الحياة اليومية، وتجعل من الحلم بديلاً مؤقتًا عن الواقع.

ومع مرور الزمن، تحولت الدراما التركية إلى أداة ناعمة من أدوات التأثير الثقافي، فبدأت تنقل قيمًا وسلوكيات غريبة عن المجتمعات العربية، وتعيد تشكيل مفاهيم الحب والعائلة والشرف من منظور جديد لا يخلو من التناقض. فبينما تحافظ بعض الأعمال على القيم الأخلاقية والروابط الأسرية، نجد أعمالًا أخرى تتعمد كسر تلك الثوابت لتقديم "حرية درامية" زائفة تتنافى مع طبيعة المجتمعات المحافظة.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هناك أعمالًا تركية راقية استطاعت أن تلامس القلوب بصدق، وتعرض قضايا إنسانية مؤثرة، وتقدم مشاهد فنية تستحق التقدير. فقد نجحت بعض المسلسلات التاريخية مثل "قيامة أرطغرل" و"المؤسس عثمان" في تقديم دراما تجمع بين الترفيه والرسالة، وبين القوة والهوية، وهو ما جعلها تحظى باحترام المشاهد العربي والمسلم على وجه الخصوص.

إن الدراما التركية — كغيرها من الفنون — تحمل وجهين: وجهًا مشرقًا مبدعًا يلامس الوجدان، ووجهًا آخر تجاريًا يسعى وراء المكاسب على حساب الحقيقة. لذلك فإن مسؤولية المشاهد العربي اليوم هي أن يميز بين الفن الهادف والفن الزائف، وأن يدرك أن ما يُعرض على الشاشة ليس بالضرورة صورة عن الواقع، بل قد يكون محاولة ذكية لصناعة واقعٍ موازٍ يخدم أهدافًا محددة.

ويبقى السؤال مطروحًا: هل نحن نعيش الدراما التركية بعقولنا أم بقلوبنا؟ وهل سنظل نصدق الحكايات المصنوعة في استوديوهات إسطنبول أكثر من حكاياتنا الواقعية التي تحدث حولنا كل يوم؟

في ختام هذا المشهد الممتد بين الواقع والخيال، يمكن القول إن الدراما التركية لم تعد مجرد أعمال فنية تُعرض على الشاشات، بل أصبحت عالمًا موازيًا يعيش فيه الملايين بأفكارهم ومشاعرهم. إنها ليست فقط قصص حب أو صراعات أسرية أو مغامرات بطولية، بل هي انعكاس لطموح الإنسان في الهروب من واقعه المؤلم إلى عالم يبدو أكثر جمالًا وعدلًا وإنسانية. ومع ذلك، فإن هذا الهروب المؤقت قد يتحول إلى خطر حين يصبح المشاهد أسيرًا للخيال، فيفقد القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف، وبين العاطفة الصادقة والمشاعر المصنوعة للإبهار.

الدراما التركية صنعت بمهارة صورة متقنة لمجتمعٍ مثاليٍّ يعيش على ضفاف البوسفور، حيث تلتقي القصور بالشواطئ، وتختلط دموع العشق ببريق الثراء. لكنها في الحقيقة، كما هي حال معظم الفنون التجارية، تنتقي من الواقع ما يرضي الجمهور، وتُهمل ما يوجعه. فهي تُظهر الحب بلا حدود، لكنها نادرًا ما تُظهر قسوة الفقر أو أوجاع السياسة أو صراعات الهوية، إلا في سياقات تخدم الحبكة الفنية لا الواقع الفعلي.

وهنا يكمن جوهر الخطر؛ إذ يتحول الفن من رسالة إنسانية إلى سلعة ترفيهية تُباع وتُشترى، وتُستغل لتشكيل العقول وفقًا لمعايير غريبة عن بيئتنا وثقافتنا. فبين مشهدٍ رومانسيٍ ساحر، وآخر بطوليٍ يفيض بالعظمة، تُزرع أفكارٌ ناعمة تغيّر مفاهيمنا ببطء، وتجعلنا نرى الحياة بمنظورٍ مستوردٍ لا يمت إلى واقعنا بصلة.

غير أن الفن الحقيقي لا يكذب، بل يواجه ويكشف ويُصلح. وحين يقرر الفن أن يُجمّل الواقع، فليكن تجميلًا هادفًا يزرع الأمل لا الوهم، ويُحفّز على البناء لا الهروب. فالمجتمع الذي يُغرق نفسه في الخيال دون أن يُواجه حقائقه، يصبح عاجزًا عن التطور. أما حين يجعل من الفن وسيلة وعي ونقد، فإنه يفتح لنفسه أبواب التغيير والنهوض.

إن الدراما التركية، بكل ما تحمله من سحرٍ وجاذبية، تظل تجربة فنية تستحق الدراسة لا التقليد الأعمى. ويظل المشاهد العربي مطالبًا بأن يُشاهد بعين الناقد لا بعين المبهور، وأن يتعامل مع هذه الأعمال بوعيٍ يحفظ له قيمه وثقافته. فالفن إذا لم يكن صادقًا مع الإنسان، فإنه يتحول إلى وهمٍ جميلٍ يطفو فوق سطح الواقع دون أن يلمسه.

وهكذا، يبقى الفارق بين الواقع والخيال هو وعي الإنسان نفسه، فكل مشهد يُعرض أمامنا ليس سوى مرآة نرى فيها ما نريد أن نراه، لا ما هو موجود بالفعل. وبين الحلم والحقيقة، يبقى علينا أن نختار أي طريقٍ نسلك: طريق الوعي الذي يُنضج العقول، أم طريق الوهم الذي يُرضي العيون فقط.

حسين السمنودى الدراما التركية بين الواقع والخيال الجارديان المصرية