الخميس 25 أبريل 2024 10:59 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

فنون وثقافة

الدكتور أحمد الباسوسى يكتب : أصوات ....( قصة قصيرة )

الدكتور أحمد الباسوسى
الدكتور أحمد الباسوسى

ربما لو داهمته تلك النوبة العاصفة من الأرق قبل عشر سنوات حينما كان قادرا على التجول في الشوارع، والدخول في حروب كلامية واحيانا جسدية مع الأقران والمغامرين من امثاله لما منح لتلك الليلة الفريدة تلك المساحة من التفكير والاهتمام في داخله، واستطاع بسهولة عبورها الى النوم الجميل. عيناه المستديرتان الذين بدأ بريقهما يأفل لم تقدرا على الانغلاق، جفنيه المنفوخين وقد وضح عليهم الترهل وبصمة الزمن تجبستا تماما، يتسمع باذنيه المرهفتين المفرطحتين أصواتا لاتتوقف لأزيز غامض، مجهول المصدر، كأنه صادر عن  ماكينة موتورها عجوز، لم يعد هناك مجال للتحكم فيه وايقافه. ما الذي يجري داخل رأسه؟. هل بسبب تغيير مكان النوم المعتاد؟. تقلباته على ظهره وأجنابه لاتجدى نفعا مع موتور جامح يئز بشدة داخل رأسه ولا يهدأ. وتظل الأسئلة المؤرقة  الباحثة عن سبب للأرق تحوم في فضاء عينيه ورأسه لاتصيد أية اجابة. يغادر الفراش، يفتح باب الثلاجة، يسكب الماء البارد بشغف داخل حلقه، لعله ينجح في فصل التيار الكهربائي عن الماكينة العجوز التي تئز داخل رأسه، لم ينجح الأمر، تحول الى البلكونة، اصابعه المتوترة ضغطت قفلها بعنف، انفتح الشيش على مصراعيه وارتطم الخشب بالحائط الخارجي للشرفة، صوت الارتطام كان مرتفعا ومزعجا، ومتحديا سكون ليلة ليلاء اطبقت على رقاب الجميع سوى شرفة تواجهه مباشرة يتسرب من خلال شيشها الموصد بغير احكام ضوء باهت ودخان وفحيح أصوات بشرية غير واضحة. مط رأسه للخارج يتطلع للشارع الساكت سكوت المقابر، لا شيء يمكنه ان يجتذب انتباهه عن التسمح لأزيز الماكينة التي تدور داخل رأسه، وجه اذنه الكبيرة المفرطحة نحو الفحيح الصوتى المخترق لخشب الشرفة المقابلة، ميز اصواتا بشرية  لرجل وامرأة كأنهم يتجادلون من أجل الاندماج فوق الفراش!. ابتهج حدسه وحسه، ابتعد صوت أزيز الموتور العجوز عن مرمى وعيه، منى نفسه بلحظات مثيرة قد تساعده على النوم بعدها مباشرة، لكن ليس كل ما يتمناه المرؤ يدركه، دهم الصيوان المفرطح لاذنه فجأة أصوات نشاز أخرى لأطفال كأنهم يبكون أو يمرحون، خرس صوت المجادلة الجنسية، خرست معها البهجة والاثارة، عادت الموتور داخل رأسه يئز ويطن بقوة أشد، عبثت اصابعة في علبة السجائر التي فرغت سوى من سيجارة يتيمة كان قد أرجأ نفخها الى الصباح، لم يتنبه الى حركته المتوترة سوى لحظة اكتشاف جلوسة ممددا امام التلفاز الذي يبث صورا سريعة غامضة لم يكن لوعيه المشوش بسبب موجة الأرق القاسية من التقاطها، ووهج السيجارة التي نفذت يكاد يخترق لحم اصابعه، استعاد طوله فجأة، ترك خلفه صوت التلفاز يهذى باصوات وموسيقى ودخان ورائحة تبغ تملأ فراغ الغرفة الذي بدا باهتا، مبعثرة محتوياته، وبانوراما فوضوية تتحدى السكوت، لكن تتمازج مع ماكينة الأفكار التي استفزت قاعه الذي كان ساكنا منذ ساعة واحدة فقط قبل ان يقرر احتضان فراشه ليغطس عدة ساعات قبل خروجه المبكر لدوامة العمل التي لاتنتهي. ترك كل شيء خلفه مثلما هو عليه، ضوء الغرفة، التلفاز الذي يثرثر، أبخرة الدخان، الفوضى. قرر ان يلقي نفسه على الفراش وليكن ما يكون، الآن ليس لديه ما يخسره بعد ان خسر سيجارة الصباح المبكر، اطفأ اضاءة غرفة النوم، استلقى على ظهره في وضعية التمدد، اجتهد في ان يريح عضلات جسده الزاعقة لعل ماكينة الأفكار داخل رأسه تهدأ قليلا. ما زالت الصور الغامضة، والأحداث الماضية تتصارع بقوة، تمنعه من مجرد الشكوى أو حتى الفوقان بذهنية حاضرة منتظمة، لا يستشعر سوى الفوضى العنيفة داخل رأسه ووجدانه. الآن قرر ان يستسلم ويسلم نفسه للفراش لعل السماء قد تمنحه فرصة للسلام وللنوم. ارتفعت وتيرة تقلباته على جانبيه، مصر هذه المرة على ان يظل متشبثا بالفراش حتى النوم أو حتى الصباح، خلال هذا الجدل الداخلي تشقشقت الأصوات البشرية المخترقة لشيش البلكونة، لم تعد أصوات الأطفال تلوح في الأفق، بل صوت الرجل والمرأة وجدالهم الذي ما زال مستمرا. قرر ان يتصنت بجدية ويعرف ما الذي يجري بالضبط. ضبط كافة موجات استشعاره ليصل اليه الصوت واضحا جدا، غنج، نهنهة، نحنحة، فحيح، وغضب، وصوت تلامس خشن يشبه الضرب الخفيف، ثم سكوت تام مخترق بأصوات طفلية لصغار كأنهم يمرحون داخل الغرفة في حرية. ضبط موجات استشعاره أكثر  فأكثر لعله يتمكن من فك شفرة  ما يجرى خلف الشرفة المقابلة التي يتسرب ضوءها الباهت من خصاص خشب الشيش. الأطفال يغمغمون، والرجل والمرأة يستغرقهم الليل والستر وشئون خاصة تستعصى اللغة التي يتداولونها فيما بينهم ان تخرج واضحة من خلف الشيش الى الأذن المسترقة  العريضة المفرطحة للرجل المؤرق بشغف لما يجري بينهم. محاولات دؤبة لضبط موجة الاستشعار، فضول استلب كل الجوارح، وعقارب ساعة الحائط المعلقة امام فراشه تلاجق بعضها في اصرار على نهايات الأشياء  وتجددها، لايسمع سوى صوتها المتواتر  المميز &تك تك تك& يطلب منه ركوبها والفرار من خضم تلك الأزمة المزعجة. اصوات الرجال والأطفال تمضى بنفس ايقاعها، خافتة، هامسة، غامضة، مستعصية على منح المعنى كاملا لاذنين متوثبتين للفهم وللنوم. اكتشف أخيرا  متعة وراحة أثناء ممارسته لتلك اللعبة، لم يعد الآن وحيدا، أو فريسة لموتور الأفكار العجوز يقتل روحه ووجدانه الذي ينبض حزنا وخوفا. بل ضبط نفسه مؤتنسا بأصوات بشرية تهاتفه قادمة من الجهة المقابلة، تدفئ كيانه وروحه، اصوات كلما غمضت توهجت أكثر،  وأضحت أكثر دفأ ووناسة. في لحظات فارقة شعر كأنه يشارك هذه الأصوات حديثهم الليلي العابر لوقت الفجر، وجد نفسه يجلس على الكنبة مع الرجل والمرأة يشاركهم ونس الليل وحكاياته ، تمتد يده للاطفال، يرفع احدهم على صدره ويقبله، ويهدهد الآخر بمرح ويرفعه الى السقف ويلتقطه بعفوية وروح رائعة استردها أخيرا. حالة الدفئ استشرت بسرعة داخله، هيمنت على رأسه، أوقفت المحرك العجوز أخير، سلمته لنص ساعة أو ساعة على الاكثر منفصلا عن الدنيا، كما الميت، أيقظه ضوء الشمس الذي تسرب من خلال زجاج نافذة الشباك الصغير للغرفة المطل على الشارع، وأصوات بشرية تقرقع في الخارج مع هذا الصبح الندي الجديد. خرج للشرفة يستطلع الشارع والشرفة المقابلة، كان الشارع هادئا يزينه الندى ونسائم الهواء ليوم جديد، وكانت الشرفة المقابلة موصدة باحكام، ولا أثر لاصوات بشرية أو غير بشرية يمكن الانصات اليها.