دكتور علاء الحمزاوى يكتب : احترام خصوصية الآخـر


ــ قالوا: "إذا أردت السلامة من غيرك فاطلبها في سلامة غيرك منك"، وهذا مقولة صحيحة؛ لأن سلامة الإنسان من غيره تكمن في حفظ لسانه وسلوكه تجاه غيره؛ لذا من القيم الإنسانية في الإسلام احترام خصوصية الآخـر وعدم التدخل في شؤونه، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}، هذا أمر بعدم المساس بخصوصيات الآخرين وعدم التدخل في شؤونهم، فالمعنى: لا تقل في الناس ما لا تعلمه فترميهم بالباطل، وتشهد عليهم زورا وبهتانا؛ فيكون كلامك لغـوا أي باطلا؛ فتخرج عن دائرة الإيمان؛ لأن من صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، ثم أكدت الآية أن الإنسان مسؤول عن تصرُّفاته يوم القيامة بما فيها الاستماع والإبصار والتفكير.
ــ وقد أكدت نصوص كثيرة ضرورة احترام خصوصية الآخرين، منها قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، ومنها قول النبي: "يَا معشرَ من آمنَ بلسانِه ولم يدخلِ الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المسلمين ولا تَتبَّعوا عوراتِهم؛ فإنه من اتبَّعَ عوراتِهم يتَّبع اللهُ عورتَه، ومن يتَّبعِ اللهُ عورتَه يفضحْه في بيتِه"، وهذا التوجيه الكريم نابع من رؤية الإسلام بأن الحرية الشخصية حـق لكل إنسان ما لم يمس الآخرين بسوء، ومن مظاهر الحرية الأفكـار والمعتقدات، فهي اختيار شخصي لا يجوز إكراه أحـد عليها أو التخلِّي عنها، قال الله للنبي: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، فلا ينشغل المسلم بخصوصيات غيره.
ــ وما أجمل قول النبي: "مِنْ حُسْنِ إسلامِ المَرءِ تركُه ما لا يعنيه"، فهذا الحديث من أصول الأدب ويمثل ثلث الإسلام؛ لأنه يحدِّد علاقة المسلم بالمجتمع، والمراد بالحُسْن الكمال، والحديث يقتضي أن يترك المسلم ما لا يعنيه من خصوصيات الآخرين، وما لا يحتاج إليه في دينه ودنياه، والترك يشمل الكلام والنظر والاستماع والمشي والبطش والفكر وغير ذلك، واقتصار الإنسان على ما يعنيه من الأمور يُسلِّمه من شــرٍّّ، والسلامة من الشر خير، فالحديث توجيه للمسلم أن ينشغل بما ينفعه في دينه ودنياه وأن يترك ما سواه، ويُعـدُّ ذلك من كمال إسلامه.
ــ وبالمخالفة فإن انشغال المسلم بما لا يعنيه يعد نقصا في دينه أو من سوء إسلامه؛ لأن الإسلام حرَّم كل قول أو فعل يمسُّ الناس بسوء، فحرم الغيبة والسخرية والهمز واللمز والتجسُّس، قال تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ}، {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}، {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}، فهذه المحرمات تعد تدخُّلا صارخا في شؤون الآخرين؛ لذا فهي جرائم تستوجب العقاب، قال النبي عن التجسس: "مَنِ اطَّلَعَ في بَيْتِ قَوْمٍ بغيرِ إذْنِهِمْ فقَدْ حَلَّ لهمْ أنْ يَفْقَؤُوا عَيْنَهُ"، وفي رواية "مَنِ اطلَعَ فِي بيتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنٍ، فَفَقَؤُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ ولَا قِصاصَ"، ومن مظاهر انتهاك خصوصيات الآخرين ذكر عيوبهم، وهو ما حذَّر منه الشرع، فجاء في حديث مختلف فيه "طُوبَى لمَنْ شَغَلَه عيبُه عن عيوب الناس، وويلٌ لمن نَسِي عيبَه وتفـرَّغ لعيوب الناس"، ولا ينشغل بعيوب الناس إلا شخص كله عيوب، فيقنع نفسه بأن الآخرين مثله، سَمِعَ أعرابيٌّ رجلاً يعيب في الناس، فقال له: "قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس"؛ لأن الذي يطلب عيوب الناس يطلبها بقدر ما فيه منها، فأكثر الناس عيوباً أكثرهم ذكرا لعيوب الآخرين، وليعلم المسلم أن الحكم على البشر ليس من شأن البشر بل هو من شأن الله، قال تعالى: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، ولا يتعارض كل هذا مع التدخل بما فيه نفع للناس عملا بقول الله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، ويثاب المسلم على ذلك لقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.