الجمعة 4 يوليو 2025 08:35 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

فنون وثقافة

السيناريست عماد النشار يكتب : واحة الخاوي: حين ينهض الغبار وتتكشف الأسطورة

السيناريست عماد النشار
السيناريست عماد النشار

في روايته اللافتة "واحة الخاوي"، الصادرة عن دار بيت الياسمين للنشر، يقدّم الروائي المصري دكتور إيهاب بديوي عملًا أدبيًا يتجاوز السرد التقليدي إلى تجربة فكرية وروحية معقدة، تجمع بين الواقعية السحرية، القلق الفلسفي، وتوتر الذات المعاصرة، ليبني عالماً متشابكاً يتقاطع فيه الأسطوري مع الواقعي، والرمزي مع العيني، والحلم مع الكابوس.

إنها رواية لا تكتفي بالحكي، بل تجرّ القارئ إلى منطقة شائكة من الأسئلة، حيث لا أجوبة جاهزة، ولا نهايات مطمئنة.


منذ الصفحات الأولى، يدخل القارئ في قلب حدث مفاجئ يهزّ هضبة الأهرامات: غطاء غبار كثيف يبتلع الأهرامات ويكشف عن عمالقة أسطوريين، يبدون كأنهم بعثوا من رحم الأساطير القديمة. هذا المشهد الذي يكسو الواقع بطابع أسطوري مشوَّش، لا يكون إلا مدخلاً لرحلة سردية مثقلة بالتساؤلات عن الزمن، الهوية، الحضارة، والإنسان.


حسين: البطل المتأرجح بين الانكسار والحلم


تُروى "واحة الخاوي" من منظور حسين، رجل أربعيني تقليدي، موظف في إحدى الشركات الاستثمارية الكبيرة، يعيش في قلب واقع اجتماعي واقتصادي منهك،يبدو في البداية كأي شخصية عادية في مدينة مكتظة بالظلم والرتابة، لكنه سرعان ما يتحوّل إلى بوابة لفهم أعمق لأزمات الإنسان المعاصر.


رحلته إلى الأقصر، التي يفترض بها أن تكون مهمة عمل عادية، تتحوّل إلى مغامرة وجودية، تنفتح خلالها بوابات الذاكرة والخيال، وتتشابك خطوط الحاضر مع طيف ماضي ضبابي وآمال ثورية منهارة، في هذه الرحلة، لا يكتشف حسين فقط أسرار الحضارة، بل يواجه هشاشته كفرد يحاول النجاة في عالم لا يرحم.


الهوية والحرية والعدالة... أسئلة بلا إجابات


الرواية لا تقدم إجابات جاهزة، بل تضع القارئ أمام تأملات فلسفية دقيقة، تغوص في لب الوجود الإنساني: هل نحن أحرار؟ هل يمكننا التحرر من أعباء التاريخ، من خيباتنا المتكررة، ومن رواسب الفشل الجمعي؟ وهل يمكن للعدالة أن تكون أكثر من مجرد حلم مستحيل؟

هنا تتقاطع الميتافيزيقا مع الواقع: أحلام حسين تأخذه إلى رؤية والده في زي ملك فرعوني، ومشاهد العمالقة تتحول إلى رموز محملة بالدلالات حول سطوة التاريخ وصراع السلطة والهوية، وبين السطور، يحضر سؤال أكبر: ماذا تعني الحضارة إذا لم تحفظ كرامة الإنسان؟


أمل... المرأة التي اختزلت الانهيار


وسط هذا الصراع النفسي العميق، تأتي أمل، زوجة حسين، لا كشخصية جانبية، بل كمرآة حادة لكل ما فقده البطل. كانت شريكة في الحلم، ثم أصبحت ناقدة مرهَقة تلوك خيباتها بصوت عالي،علاقتها بحسين تجسد تصدع العلاقات العاطفية تحت ضغط الإحباط الاجتماعي، وتقدّم نموذجاً حقيقياً لانهيار الحلم الجمعي في العالم العربي.


جمالية السرد وبنية الرواية


تميز "واحة الخاوي" ببنية سردية متقنة، حيث يتداخل الحلم مع الواقع، والرمز مع الحدث، عبر لغة مشبعة بالشعرية دون أن تفقد تماسكها،يبرع إيهاب بديوي في استخدام الواقعية السحرية كأداة لاستكشاف ما لا يقال صراحة في الواقع، ويقدم سردًا داخلياً متقطعاً يعكس اضطراب حسين وتيهه الوجودي.


من خلال مشاهد العمالقة، والضباب، والحكايات المتناثرة عن الأقصر القديمة، يخلق الكاتب مساحة تتجاوز الزمان والمكان، حيث يصبح كل شيء ممكنًا، وكل شيء مشكوكًا فيه، لا يعود القارئ متلقياً فقط، بل شريكاً في إعادة تركيب هذا العالم.


رواية عن كل فرد وكل مجتمع


"واحة الخاوي" ليست فقط قصة رجل يبحث عن معنى، بل هي مرآة شديدة الحساسية لمجتمع فقد بوصلته، وتائه بين أمجاد الماضي وأشباح الحاضر، تقدم الرواية تجربة أدبية لا تُقرأ فقط، بل تُستشعر وتُفكَّر فيها،هي دعوة مفتوحة للتأمل في مصير الإنسان العربي، في ظل تاريخ يثقل الحاضر، وحلم لا يجد سبيله للتحقق.


هذه رواية ،لكل من يبحث عن أدب يتجاوز الحكاية التقليدية، ويغوص في أسئلة الوجود والهوية، بصياغة فنية عالية.

لكل قارئ يريد أن يعيش تجربة أدبية تمزج بين جماليات الأدب الحديث وأصداء الأسطورة القديمة،

ولكل من أنهكته الأسئلة، وأرهقته الأجوبة الجاهزة.


"واحة الخاوي" ليست فقط رواية، بل حالة فكرية وشعورية نادرة، تستحق التوقف والتأمل والمراجعة.

السيناريست عماد النشار واحة الخاوي: حين ينهض الغبار وتتكشف الأسطورة واحة الخاوي: حين ينهض الغبار وتتكشف الأسطورة الجارديان المصرية