حسين السمنودى يكتب : التجاهل في زمن المصالح وواقع الدنيا المرير


لم يعد الصديق صديقًا، ولا القريب قريبًا، ولا حتى الأخ أخًا كما كان في سابق الزمان. صرنا نعيش في زمن يعلو فيه صوت المصلحة، وتُدفن فيه القلوب الصادقة تحت ركام التجاهل المتعمد. زمنٌ تحكمه القاعدة الذهبية: "إذا لم تكن مفيدًا فأنت غير موجود!"
نعم، لقد صار التجاهل عملة رائجة في سوق العلاقات، لا فرق فيه بين الحبيب والصديق والزميل وحتى الجار. علاقاتنا باتت تقاس بما تقدمه، لا بما تحمله من حب ووفاء. من المؤلم أن ترى من كنت تظنه الأوفى يتجنبك في الطرقات، ويكتفي بنظرة فاترة حينما كنت تنتظر منه حضنًا دافئًا أو كلمة تطيب بها الجراح.
والمؤسف أكثر، أن كثيرًا من الناس باتوا لا يشعرون بوخز ضمير حين يتجاهلون من وقف إلى جوارهم في لحظات الشدة، أو من منحهم وقتًا وجهدًا وعاطفة صافية دون مقابل. أصبح الوفاء نادرًا كندرة المطر في صحراء قاحلة، وصارت القلوب تتعامل وكأنها آلات لا تتأثر، ولا تتذكر، ولا تتألم.
إن واقع الدنيا اليوم مرير بحق. فالناس يركضون خلف منافعهم، ويعقدون صداقاتهم وفقاً لمصالحهم، ويقطعونها إن انتهت المنفعة أو تغيرت الظروف. الأخوة أصبحت هشّة، والعلاقات الإنسانية باتت مسرحًا للتمثيل والادعاء، وأصبح "التجاهل" سلاحًا يُشهر في وجه كل من لا يواكب لعبة المصالح.
وما يزيد الوجع أن من يُتجاهَل لا يكون غالبًا مذنبًا، بل يكون صادقًا أكثر مما ينبغي، واضحًا أكثر مما يجب، ومحبًا بعمق في زمن لا يحتمل الحب الصادق.
ومع هذه الصورة القاتمة، لا يمكننا أن نغفل عن أحد أخطر أوجه التجاهل في عصرنا، وهو التجاهل بين الزملاء داخل المصالح والمؤسسات. هناك، حيث يُفترض أن تسود روح التعاون، تجد التنافس والأنانية في أبهى صورها. أصبح الزميل زميلًا فقط عندما يحتاج شيئًا، أو عندما تكون قريبًا من صانع القرار، أو حين تكون بوابة لعبور إلى مصلحة معينة.
في المؤسسات، تتحول الزمالة إلى شبكة علاقات هشة تُنسج بخيوط المنافع المؤقتة. الابتسامات عريضة، والكلمات رقيقة، لكن القلوب خاوية من المعنى. الزميل الذي كان يتودد إليك صباحًا، لا يتردد في تجاهلك إذا علم أنك لم تعد تمثل له مصلحة، أو أنك أصبحت خارج "دائرة التأثير".
من يُحال إلى المعاش يُنسى، وكأنه لم يكن يومًا جزءًا من الفريق. يُغلق باب مكتبه وتُغلق معه ذكراه، ويُدفن اسمه بين الملفات، وكأن العلاقات كانت مجرد وسيلة لا غاية.
أما في الاجتماعات، فتجد الكل يتسابق للاقتراب من المدير، لا لإبداء الرأي، بل لإظهار الولاء. من يعترض يُتهم بالمشاغبة، ومن يصمت يُكافأ، ومن يساير التيار يترقى، حتى لو كان فارغًا من الكفاءة.
أصبحت المصلحة الشخصية قطارًا لا يتوقف، يدهس تحته كل القيم الجميلة: الوفاء، الزمالة، الصدق، والأخلاق. والأدهى أن كثيرًا ممن يقودون هذا القطار، لا يشعرون بأي حرج، بل يرون ذلك "ذكاء اجتماعيًّا"، ويبررونه بأنه "طبيعة العصر".
لكن، رغم كل ذلك، هناك من لا يزالون يسبحون عكس التيار. أناس يقدّرون المعروف، ويحفظون الود، ويقفون إلى جوار زملائهم حتى بعد التقاعد، أو المرض، أو التغييب القسري. هؤلاء لا يملكون مناصب، لكنهم يملكون قلوبًا كبيرة، لا تعرف التجاهل، ولا تنسج العلاقات بخيوط المصالح.
نعم، واقع الدنيا مرير. لكن المرارة لا تُحلى بالتجاهل، بل تُكسر بالمحبة، والصدق، وخلق الوفاء. وإذا كانت المصالح تدير الحياة، فالضمير وحده هو الذي يحفظ كرامتها.
فلنكن نحن الباقين على عهد الإنسانية، الذين لا تنسينا المصالح من أحبونا لوجه الله، ولا تأخذنا دوامة الحياة بعيدًا عن أصلنا الطيب. فربما يُغيّر صدقنا هذا الواقع، ويُعيد للحياة شيئًا من دفئها المفقود.
وفي النهاية، لعل أقسى ما في التجاهل أنه لا يكسر الجسد، بل يطعن في الروح، يخذل القلب، ويطفئ نور الود في النفوس. كم من قلوبٍ مخلصة تحطّمت لأنها لم تجد من يُقدّرها، وكم من أرواحٍ تعثّرت في درب الحياة لأنها راهنت على بشر لا يعرفون الوفاء.
لكن تذكّر دائمًا أن ما تزرعه في قلوب الآخرين سيعود إليك، ولو بعد حين. فإن جفّ الزمان، فلا تجفّ أنت، وإن ساد التجاهل، فلا تنسَ أن الله يرى ويعلم ويكافئ كل نية طيبة، وكل وفاء صادق.
دعهم يتجاهلون، وامضِ بطهرك، وابقَ كما أنت: نقيًّا في زمن المصالح، صادقًا في عصر الأقنعة، إنسانيًّا في دنيا جفّت فيها المعاني. فالقيمة ليست في كثرة من حولك، بل في صدق من معك.
وما خُلقنا لنكون أدوات تُستخدم وتُنسى، بل لنكون قلوبًا تحيا وتُحْيي غيرها بالحب والصدق، مهما كانت قسوة الزمن.