محمد الشافعى يكتب : القاهرة..العاصمة الأبدية لمصر بين الأصالة والتحديث


القاهرة في القلب والوجدان
لا يمكن الحديث عن مصر دون أن تتبادر إلى الذهن صورة القاهرة العريقة، تلك المدينة التي ظلت لقرون طويلة عاصمة المملكة المصرية والجمهورية الحديثة، حاملة في طياتها تاريخاً عريقاً وثقافةً ثريةً تجعل منها بالفعل "العاصمة الأبدية" لمصر.
في السنوات الأخيرة، شهدت مصر مشروعاً ضخماً لإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة التي ستستضيف مقرات الحكومة والوزارات، مما أثار تساؤلات حول مصير القاهرة كعاصمة للبلاد.. ولكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن القاهرة ستبقى رمزاً للهوية المصرية وقلباً نابضاً للحضارة والثقافة، بينما تمثل العاصمة الإدارية الجديدة حلولاً عملية للتحديات العمرانية والاقتصادية التي تواجهها البلاد.
الجذور التاريخية للقاهرة كعاصمة لمصر
تمتد جذور القاهرة كعاصمة لمصر إلى عصورٍ عابرة ، حيث تأسست عام 969م على يد جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي، لتصبح منذ ذلك الحين مركز الحكم والإدارة في مصر. عبر القرون، احتفظت القاهرة بمكانتها كعاصمة للبلاد تحت حكم الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، وحتى في العصر الحديث مع تأسيس الجمهورية. هذه السلسلة التاريخية المتصلة جعلت من القاهرة أكثر من مجرد مدينة، بل أصبحت رمزاً للاستمرارية والحضارة المصرية عبر العصور. إن فكرة استبدال القاهرة كعاصمة لمصر تتجاهل هذا الثقل التاريخي والثقافي الذي لا يمكن تعويضه أو نقله إلى مدينة حديثة النشأة.
العاصمة الإدارية الجديدة: حل عملي لتحديات العصر
في مارس 2015، أعلنت مصر عن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة خلال مؤتمر دعم الاقتصاد المصري في شرم الشيخ، كجزء من رؤية مصر 2030 للتنمية المستدامة.
تقع هذه المدينة على مساحة 714 كيلومتر مربع (170 ألف فدان) بين طريقَي القاهرة-السويس والقاهرة-العين السخنة، على بعد حوالي 45 كيلومتراً شرق القاهرة. الهدف الأساسي من هذا المشروع الضخم هو تخفيف الضغط السكاني والخدمي عن القاهرة الكبرى، التي يعاني سكانها البالغ عددهم نحو 20 مليون نسمة من ازدحام مروري خانق وضغط على البنية التحتية.
لماذا لا يمكن استبدال القاهرة؟
رغم ضخامة المشروع وأهميته، تبقى الحقائق التالية دليلاً على استحالة استبدال القاهرة كعاصمة لمصر:
الثقل التاريخي.. القاهرة ليست مجرد عاصمة سياسية، بل هي متحف مفتوح يحوي تراثاً يعود لأكثر من ألف عام، من الجامع الأزهر إلى قلعة صلاح الدين والأحياء التاريخية مثل الخليفة والمعز.
المركز الثقافي.. تضم القاهرة أهم المؤسسات الثقافية في مصر مثل دار الأوبرا المصرية، المتحف المصري، والمتحف القومي للحضارة المصرية، والتي لا يمكن نقلها أو استبدالها.
الاقتصاد غير الرسمي..تعتمد ملايين الأسر المصرية على النشاط الاقتصادي المكثف في شوارع القاهرة وأسواقها التي تشكل عصب الاقتصاد الشعبي.
الهوية الرمزية.. عندما يُذكر اسم مصر في العالم، تتبادر إلى الذهن أهرامات الجيزة وأبو الهول، وهما جزء لا يتجزأ من القاهرة الكبرى، مما يجعلها العاصمة الطبيعية في الوعي العالمي.
النمو الاجتماعى .. على عكس المدن المخططة، نمت القاهرة اجتماعيا لقرون، مما جعلها نسيجاً اجتماعياً معقداً لا يمكن إعادة إنتاجه في مدينة جديدة.
تجارب عالمية وتوازن مصري
التجربة المصرية ليست فريدة في النظر إلى حلول للازدحام العاصمي. ففي دول مثل ماليزيا، ظلت كوالالمبور العاصمة الرسمية بينما أصبحت بوتراجايا المركز الإداري. similarly، في جنوب أفريقيا، توزعت السلطات بين بريتوريا (الإدارية)، كيب تاون (التشريعية)، وبلومفونتين (القضائية)، مع بقاء جوهانسبرج كالمركز الاقتصادي.
في الحالة المصرية، من المتوقع أن يسود نموذج مماثل من التكامل بين القاهرة كعاصمة ثقافية وتاريخية واقتصادية، والعاصمة الإدارية الجديدة كمركز للحكم والإدارة. هذا التوزيع الوظيفي سيحقق عدة فوائد:
- تخفيف الضغط عن القاهرة مع الحفاظ على دورها المركزي
- توفير بيئة عمل أكثر كفاءة للمؤسسات الحكومية
- تحفيز التنمية العمرانية في المناطق الصحراوية الشرقية
- تقليل الخسائر الاقتصادية الناتجة عن الازدحام والتي تقدر بـ8 مليارات دولار سنوياً
الخدمات والبنية التحتية .. تكامل لا تنافس
تعمل الحكومة المصرية على تطوير بنية تحتية متكاملة تربط بين القاهرة والعاصمة الإدارية الجديدة، مما يؤكد رؤية التكامل بين المدينتين:
- شبكة مواصلات تشمل القطار الكهربائي الخفيف (LRT) والمونوريل بسرعة 120 كم/ساعة
- 369 حافلة نقل جماعي برحلات يومية بين المدينتين
- مطار العاصمة الدولي الجديد لتخفيف الضغط عن مطار القاهرة
- طرق سريعة مثل الطريق الدائري الإقليمي وطريق القاهرة-السويس
الرؤية المستقبلية .. تعايش بدلاً من استبدال
في 2 أبريل 2024، أدى الرئيس عبد الفتاح السيسي اليمين الدستورية لفترة رئاسية ثالثة في العاصمة الإدارية الجديدة، مما مثل اعترافاً رسمياً بدورها كمركز جديد للحكم. ومع ذلك، فإن الدستور المصري ينص في المادة 114 على أن "مقر مجلس النواب مدينة القاهرة"، مما استدعى إجراءات لضم العاصمة الإدارية إدارياً إلى محافظة القاهرة. هذه الخطوة القانونية تؤكد أن العاصمة الإدارية هي امتداد للقاهرة وليس بديلاً عنها.
القاهرة باقية.. والعاصمة الإدارية مكملة
في النهاية، لا يمكن للعواصم أن تُستبدل بسهولة، خاصة عندما يتعلق الأمر بمدينة مثل القاهرة التي تجسد روح مصر وتاريخها. المشاريع العمرانية الجديدة مثل العاصمة الإدارية تمثل حلولاً عملية لتحديات التنمية والازدحام، لكنها لن تستطيع أبداً أن تحل محل القاهرة كعاصمة أبدية لمصر.
ستظل القاهرة - بجامعتها الأزهر وشوارعها التاريخية ونشاطها الثقافي - القلب النابض لمصر، بينما ستلعب العاصمة الإدارية دور المركز الإداري والتنموي الحديث. هذا النموذج التكاملي هو الأكثر واقعية ونجاحاً، حيث يجمع بين احترام الموروث الحضاري ومواكبة متطلبات العصر الحديث.