السبت 12 يوليو 2025 07:16 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

دكتور علاء الحمزاوى يكتب : للهِ دَرُّك يا ابن عباس !

دكتور علاء الحمزاوى
دكتور علاء الحمزاوى

ــ هذا العنوان مقولة تُنسَب لعُمَر، فما معنى "لله دَرُّك"؟ ولماذا قيلت لابن عباس؟ الدَرُّ ما يدِرُّ من اللبن من ضَرْع البقرة والناقة والشاة أي ما ينزل منها، وقالوا: دَرَّ وجهُ الرجل إذا حَسُنَ بعد مرض، ودرَّ الخَراجُ إذا كثُر، وأصل العبارة أن رجلاً رأى رجلا يحلب إبـلاً فتعجب من كثرة لبنها، فقال له: لله درّك، أي ما أكثر لبن إبلك! ثم استُعمِل التعبير مجازا للكناية عن مدح الشخص أو الفعل الصادر عنه، ونُسِب الفعل إلى الله للتعجب؛ لأن كل شيء عظيم يراد التعجب منه يُنسَب إلى الله؛ لأن الله منشئ العجائب، فيقال: لله أنت ولله دَرُّك أي لله عطاؤك ولله عملُك وما أعجب فعلَك! ثم وسَّعوا التعبير فقالوا: "لله دَرُّك وعلى الله أجرُك"، و"لله دَرُّك وعلى الله شكرك"، والمعنى فيهما جيد، قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وقال النبي: "فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ"، فإذا أريد ذمُّ العمل قيل: لا دَرَّ دَرُّه أي لا كثُـرَ خيرُه.
ــ وابن عباس هو عبدالله بن عباس بن عبد المطلب ابن عـم النبي، وُلِد قبل الهجرة بثلاث سنوات وتوفي 68هـ، لمَّا حملت أمه أتى العباس إلى النبي فقال: «يَا مُحَمَّدُ مَا أَرَى أُمَّ الْفَضْلِ إِلَّا قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى حَمْلٍ، فقَالَ النبي: لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُقِرَّ أَعْيُنَنَا مِنْهَا بِغُلَامٍ»، فلما وضَعَتْه أتى به أبوه النَّبِيَّ وهو في خِرْقته فَحَنَّكَه النبيُّ بريقه تَبرُّكًا، وكل شيء في النبي بركة، فكان رِيقُه شفاءً وكان عَرَقه أطيب من المسك، والتحنيك بالتمر يُمضَغ ثمَّ يُدلَّك به فـم المولود، ويجوز بالعسل وما يشبه؛ ليكون أول ما يدخل جوْفَه السُّكـرُ لاحتياجه إليه، وهو سُنَّة بشرط عدم إيذاء المولود ألمًا أو مرضًا.
ــ لمَّا كبُر لزم النبيَّ حتى تُوفِّي، فكانت مدة الملازمة ثلاثين شهرا فقط، ومع ذلك صار بحرا في العلم، روى 1660 حديثًا مع صغره، إذ كان عمره وقت وفاة النبي ثلاث عشرة سنة، وبلغ من الدقة في النقل أنه كان يسأل ثلاثين صحابيا عن الخبر الواحد، وكان له مجلس علم كبير، وكان يُقسِّم مجلسه أيامًا؛ فيجعل يومًا للفقه ويومًا للتفسير ويومًا للتاريخ ويومًا للشعر، هو أول مفسِّر للقرآن، لما نزل قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ والفَتْحُ} فسَّره البعض بأن الله أمرنا أن نحمده ونستغفره إذا نصرنا، وفسَّره ابن عباس بأنه أَجَلُ رسول الله أعلَمَه اللهُ إياه، فلُقِّب بـ"حَبر الأُمَّة وترجمان القرآن"، وكل هذا بفضل دعاء النبي له «اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل».
ــ نال إعجاب كبار الصحابة حتى قال عنه عُمَر: "ذَاكُم فَتَى الكُهُولِ؛ لَهُ لِسَان سَؤُول وَقَلْب عَقُول"، أي أنه شاب يتمتع بصفات الكُهول فيتميز بالحكمة والرزانة، ويتمتع بلسان كثير طرح الأسئلة، وكل إبداع يأتي من التساؤلات، وله عقل راجح يتمتع بوعي وفهم عميق، وإعمال العقل واجب على المسلم علما وإيمانا، اختاره عُمَر مستشارا له، فقال له أبوه: "إن عمر يدنيك ويجلسك مع أكابر الصحابة، فاحفظ عني ثلاثًا: لا تفشينَّ له سرًّا، ولا تغتابنَّ عنده أحدًا، ولا يجرِّبـنَّ عليك كذبًا"، واستعان به عليٌّ فأرسله إلى خوارج الحرورية (فرقة من الخوارج في حروراء بالعراق) فحاورهم ابن عباس، فأقنع بعضهم فرجعوا إلى رشدهم.
ــ كان له رؤية علمية ثاقبة جعلته يختلف مع الصحابة، فاختلف مع عُمَر في حكم الملامسة، فأفتى بأن ملامسة المرأة دون جماع ولا إنزال لا توجب الوضوء، واختلف مع عليٍّ لمَّا حرق ناسًا ارتدوا عن الإسلام، فقال له: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ وقتلتُهم؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ قال: “لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ”، وقَالَ: “مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ”، وسئل عن الْمَكَان الَّذِي طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يوما واحدا لَمْ تَطْلُعْ قَبْلَه وَلا بَعْدَهُ عليه فقال: هو المكان الَّذِي انْفَرَجَ مِنَ الْبَحْرِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ.
ــ رفعه العلم منزلة عظمى؛ فصار مدرسة للشباب والكبار في الاقتداء به للنهوض بالأمة، فلا يقلل المرء من نفسه لصغره، بل يثق في إمكانياته وقدراته، وينبغي على الكبار ألا يستصغروا الشباب، بل ينبغي رعايتهم وتأهيلهم للعلم وتحمُّل المسؤولية، وينبغي أن ينشغل الشباب بالعلم وأن يعملوا عقولهم فيما يُعرَض عليهم وأن يستوثقوا منه، وأن يلتزموا الدقة والأمانة في النقل قبل النشر، فما أكثر المعلومات المغلوطة خطأ أو عمدًا! وينبغي أن يرتبطوا بالله؛ ليكونوا قدوة صالحة للمجتمع، وليعلمِ الجميع أن العلم يرفع شأن صاحبه، وأن الدول لا تنهض إلا بالعلم والعمل، فـ(للهِ درُّك يا ابن عباس!).

دكتور علاء الحمزاوى للهِ دَرُّك يا ابن عباس ! الجارديان المصرية