السبت 27 سبتمبر 2025 07:59 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الإعلامى الكبير محمد جراح يكتب : المساكنة الإعلامية (3)

الإعلامى الكبير محمد جراح
الإعلامى الكبير محمد جراح

تناولت في مقالين سابقين شأن المساكنة بشكل عام وصولاً إلى ما أسميته بالمساكنة الإعلامية التي نبني على ما قدمنا عنها في مقالنا هذا.
وللحق نقول إن الفترة التي تولى فيها السيد محمد صفوت الشريف حقيبة الإعلام كانت فترة تقبض على بقايا عز وثراء قديم من ميراث تشكل معظمُه طوال حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم. وقد استطاع الشريف بما كان تحت يديه من التوسع من إمكانات في إنشاء الإذاعات المسموعة والمرئية بشكل غير مسبوق طوال حقبتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي؛ فاكتملت في عهده منظومة الإعلام الإقليمي المسموع من خلال شبكة الإذاعات المحلية التي تغير اسمها فيما بعد إلى شبكة الإذاعات الإقليمية بإذاعاتها الإحدى عشرة، وقطاع قنوات النيل للقنوات الإقليمية بقنواته الثمانية، بل وكان سباقاً فامتلكت مصر في عهده أول قناة فضائية في المنطقة العربية؛ وهي القناة الفضائية المصرية؛ وتبعها إطلاق قطاع قنوات النيل للقنوات المتخصصة، وما كان ذلك ليكون إلا بإطلاق مصر لقمرها الصناعي الأول نايل سات بالمشاركة مع فرنسا وتوالي تحديثاته المتلاحقة فيما بعد.
والملاحظ لكل ذلك سيدرك أن الرجل كان وطنياً بامتياز وهو ينفق هنا وهناك سواء في إطلاق الإذاعات أو القنوات أو في تشييد مدينة الإنتاج الإعلامي، وظل لا يتأخر في دعوة رئيس الجمهورية لافتتاح هنا أو تشييد هناك حتى إنه ليمكن القول إن الرئيس الراحل محمد حسني مبارك هو أكثر رؤساء مصر الذين قصدوا ماسبيرو وتجولوا بين ستديوهاته، وكان الواقع يقول إن مصر التي تسيدت الإعلام في منطقتها العربية؛ وربما في الشرق الأوسط كله قد عادت لتطل بوجهها البهي اللائق بها من خلال هذا الثراء بما يعكسه من أضواء وعبق القاهرة التي فاضت وتفيض على محيطها والعالم.
وعلى الرغم من كل ذلك الزخم إلا أن المشاكل بدأت تطل بوجهها؛ ثم توالدت فتناسلت متسارعة منذ ذلك التاريخ الذي شهد ذلك الميلاد العظيم، كانت الموارد محدودة إلى حد كبير، ومع الأحلام تتلاشى كل الصعوبات؛ فاضطر الشريف للاستدانة من بنك الاستثمار القومي حتى يكمل صرح مدينة الإنتاج الإعلامي، وقد انعكس شح الموارد المتاحة على القنوات والإذاعات فولدت معظمها فقيرة وقد افتقدت إلى كثير من أدواتها الفنية والميزانيات التي تتيح لها الإنتاج وغيره من مصاريف تكاليف الصناعة الإعلامية الجيدة، ولم يقف حد شح التمويل على ما تم استحداثه بل إنه امتد ليشمل ما كان قائماً من قبل من إذاعات وقنوات، بل إن الوهن امتد كذلك حتى طال شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات التي كانت تعد واحدة من قلاع صناعة الفن في مصر والمنطقة العربية، وبين ليلة وضحاها أمسينا فأصبحنا نمتلك إمبرطورية ضخمة من المنشآت والصروح الإعلامية التي صارت رقماً في كم يفتقد إلى الكيف، ولم تكن لإذاعة جديدة مثلما الحال في القنوات المستحدثة بصمة أو تأثير ملحوظ؛ بل صار الأمر تكراراً مملاً وساعات تنفق في الهواء وقد تشابهت في محتوى ومضمون يفتقد هو الآخر إلى التأصيل حتى يستطيع إحداث أثره وتوصيل رسالته المتخصصة.
وعندما تكاثرت الفضائيات العربية العامة والإخبارية أكتشفنا أننا أصبحنا أمام معضلة تتطلب تحركاً سريعاً حتى لا ينصرف المشاهد المحلي عن قنوات بلده، وحتى تظل القنوات والإذاعات مقصداً للمستمع والمشاهد العربي مهما كانت المنافسة، وقد اتخذت إجراءات غير مرة في ذلك الشأن فتم إطلاق برنامج "توك شو" رئيسي كان بمثابة القشة الأخيرة التي حاول بها الإعلام المصري أن يثبت في مواجهة طوفان القنوات الوافدة، وظل الأمر على ذلك المنوال، تليفزيون كامل يحاول أن يثبت في المواجهة والمنافسة ولو ببرنامج واحد، وقناة أخبار لم تستطع أن تلفت أنظار ولا انتباه المتابعين حتى انطلقت أحداث الخامس والعشرين من يناير عام 2011م؛ ففقد الإعلام المصري في شقيه المسموع والمرئي كثيراً مما كان متبقياً له من تأثير، وانطلقت أثناء تلك الأحداث الاتهامات التي انصبت كلها على ماسبيرو والعاملين فيه، وبدا وكأن كل الفساد في بر المحروسة كان حكراً على ماسبيرو الذي أصبح في مهب الريح.
حاول "ماسبيرو" على الرغم من الحرب الشعواء التي تعرض لها من قطاعات تدعي أنها صفوة المجتمع أن يكون حاضراً، ومرت أحداث يناير، ومرت السنة التي تلتها، ثم السنة التي وصلت فيها جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم وحاولوا فيها التحكم في ماسبيرو وإعادة تأهيله بما يخدم وجهة نظر تلك الجماعة ومشروعها، وانتظر الناس بعد انتهاء حكم الإخوان عودة جديدة لماسبيرو تليق بما تحقق من إنجازات على أرض الواقع الذي ساهم فيها ماسبيرو بقدر كبير على الرغم من جراحه وآلامه، لكن الواقع جاء مغايراً فكانت النظرة إلى ماسبيرو تحمل جفاء وتربصاً، وانتهى الأمر بأن تلك الفئة التي كانت ضد نهوض ماسبيرو قد علا صوتها، واستطاعت أن تقبض على كثير من الخيوط، فبدا "ماسبيرو" وكأنه شبه محيد عن أحداث وفعاليات كثيرة، وصار في مرات ناقلاً وليس صانعاً، وتولت جهات بديلة مهمة ما كان يقوم به ماسبيرو، وتكبدت البلد جراء ذلك الكثير والكثير من الأموال التي لو أنفق بعضها على "ماسبيرو" وفق خطة تخدم أهداف الدولة لكان قد عاد وعاد وحقق الأمجاد، لكن ذلك لم يحدث وظل "ماسبيرو" غارقاً في ديونه ومشاكله المتراكمة وظل المخلصون من أبنائه على العهد به وبدولتهم التي يعشقونها يعملون في ظروف بالغة الصعوبة حباً في المكان، وحباً في مصر حتى لا ينهار صرحها الإعلامي الذي يعد رمزاً من رموز السيادة والحضور.
باستطاعة من يديرون الأمر أن يعودوا فيدرسوا ما كان ويفكروا فيما سيكون، وربما أجد في محاولات السيد أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام بريق أمل في مستقبل يليق بإعلام مصر الوطني، لأن ماسبيرو سيظل هو صوت وصورة مصر؛ وهذه بديهية يفهمها الغريب فماذا إذن عن القريب؟!
يتبع؛؛؛؛؛؛

المساكنة الإعلامية 3 محمد جراح الجارديان المصرية