الأحد 28 سبتمبر 2025 07:22 مـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

مدحت الشيخ يكتب : السوشيال ميديا.. عبث العصر

الكاتب الكبير مدحت الشيخ
الكاتب الكبير مدحت الشيخ

في زمن صار فيه الهاتف المحمول نافذتنا الأولى على العالم، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي اللاعب الأبرز في تشكيل الرأي العام. غير أن هذا الحضور الكاسح لم يخلُ من سلبيات خطيرة، أبرزها العبث والسطحية اللذان صارا القاعدة بدلًا من الاستثناء، وهو ما يجعل إعادة النظر في كيفية إدارتنا لهذه المنصات ضرورة لا ترفًا.

لم يعد أحد يستطيع إنكار أن منصات التواصل الاجتماعي صارت جزءًا أصيلًا من تفاصيل حياتنا اليومية. فهي موجودة في جيوبنا على مدار الساعة، تقتحم غرف نومنا قبل النوم، وتشاركنا طعامنا على الموائد، بل وتسبقنا أحيانًا في تكوين قناعاتنا ومواقفنا من القضايا الكبرى. لكن المعضلة الحقيقية ليست في الحضور الكثيف لهذه الوسائل، بل في حجم العبث الذي صار السمة الغالبة على محتواها واتجاهاتها.

فبينما جاءت الفكرة في بدايتها لتكون مساحة للتواصل وتبادل المعرفة والتجارب الإنسانية، تحولت المنصات بمرور الوقت إلى سوق مفتوح يعلو فيه صوت التفاهة على حساب المضمون، وتنتشر فيه الشائعات أسرع من الضوء. يكفي أن يكتب شخص ما جملة قصيرة بلا دليل، حتى تتحول إلى "تريند" يتداوله الآلاف وكأنه حقيقة راسخة، في حين يظل الخبر المؤكد أو الدراسة الموثوقة حبيس الصفحات المتخصصة لا يسمع عنها أحد.

الأخطر من ذلك أن القيمة باتت تُقاس بعدد "اللايكات" و"المشاركات"، لا بصدق المعلومة أو عمق الفكرة. الخوارزميات المصممة لإبقاء المستخدم أطول فترة ممكنة على المنصة، لا تعترف إلا بما يثير الجدل أو يضاعف الانفعال، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقيقة. وهكذا يصبح الطريق إلى الشهرة ممهّدًا أمام من يجيد الصراخ والتهكم، بينما يتوارى أصحاب الرأي الرصين والتحليل العميق.

هذا العبث السائد انعكس بدوره على وعي الأفراد وسلوكياتهم. فالكثيرون باتوا يعتمدون على "بوست" مجهول أو مقطع قصير مجهز بإتقان تقني، أكثر مما يعتمدون على خبر صحفي موثق أو تقرير رسمي. والأسوأ أن بعض القضايا المصيرية تُختزل أحيانًا في "هاشتاج" عابر لا يتجاوز عمره أيامًا، قبل أن يبتلعه سيل جديد من القضايا المفتعلة والترفيه الفارغ.

المسؤولية هنا مزدوجة؛ فالفرد مطالب بالتحقق وعدم الانجرار وراء كل ما يُنشر، كما أن المؤسسات الإعلامية والتعليمية مطالبة بتعزيز ثقافة التثبت ومهارات التفكير النقدي، حتى يصبح المستخدم واعيًا بأبعاد ما يتلقاه. وفي الوقت نفسه، لا يمكن إغفال مسؤولية الدولة والمجتمع المدني في ضبط الفضاء الرقمي بآليات تحمي حرية الرأي دون أن تتركه فوضى مستباحة.

السوشيال ميديا في جوهرها أداة، يمكن أن تكون قناة للنهوض وتبادل المعرفة وتوسيع الأفق، ويمكن أن تظل مجرد ساحة للعبث والسطحية تضيع فيها الأوقات وتُستنزف العقول. والاختيار بين الطريقين، في النهاية، مرهون بقدرتنا على إدارة هذه الأداة بما يخدم الوعي العام ويحفظ قيم المجتمع.

السوشيال ميديا.. عبث العصر مدحت الشيخ الجارديان المصرية