حمادة إمام يكتب :في الذكرى ال45 ليوم الارض.. رحلة اليهود من التيه لأرض الميعاد


وكانت رسالة بلفور إلي روتشيلد نصها كالآتي: "يسرني أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحبة الجلالة التصريح التالي الذي ينطوي علي العطف علي أماني اليهود والصهيونية وقد عرض علي الوزارة وأقرته وأن حكومة صاحبة الجلالة لتنظر بعين العطف إلي تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل جهودها لتسهيل تحقيق هذه الغاية". وقد احتوت الرسالة علي مفهومين أساسيين الأول تأييد إنجلترا لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين والثاني تعاون إنجلترا مع اليهود لتحقيق هذا الهدف.
..............
وفي "9" ديسمبر من نفس العام سار الجنرال "اللنبي" في المدينة المقدسة بصحبة ممثلي قوات التحالف وأعلن قيام إدارة عسكرية باسم الإدارة الجنوبية لبلاد العدو المحتلة ودخلت فلسطين في تلك الإدارة، وكانت سوريا الداخلية حتّي العقبة إدارتها عربية وعلي رأسها فيصل بن الشريف حسين، أما لبنان وسواحل سوريا فجعلت لفرنسا. وقد اتضح من هذا التقسيم نية الحلفاء في توزيع التركة وتنفيذ وعد بلفور، وعندما أرسل فيصل إلي اللنبى يعلمه عن عجزه كبح جماح العرب ما لم يصدر بياناً رسمياً عاجلا يوضح فيه نواياهم. وأصدرت الحكومتان البريطانية والفرنسية في 7 نوفمبر 1918 بياناً جاء فيه أن غرضهما هو التحرير التام للشعوب التي طال اضطهاد الأتراك لها وإقامة حكومة قومية فيها. وفي هذه الأثناء حرصت بريطانيا علي جعل إدارة فلسطين في يدها هي فقط، وقد شعر العرب منذ بداية تأسيس الحكم العسكري بخطرين؛ الأول هو شعورهم بالانفصال عن الوطن الأم سوريا، والخطر الثاني مخاوفهم الشديدة الناجمة عن تصريح بلفور، وفي ذلك الوقت تحديدا لم يكن في فلسطين جهاز سياسي وطني ولا منظمات ولم يكن لعرب فلسطين من يتكلم باسمهم في بداية الاحتلال العسكري سوي الشريف حسين. وحرصاً من بريطانيا علي أن تجعل تصريح بلفور أمراً نافذا فقد وافقت علي إرسال بعثة صهيونية برئاسة وايزمان إلي فلسطين، وكانت لها مهمة محددة وهي أن تكون حلقة الوصل بين السلطة البريطانية ويهود فلسطين وأن تقوم بمساعدة اليهود علي الهجرة إلي فلسطين وتجديد المستعمرات وتطويرها وتنظيم اليهود بشكل عام، وأن تدرس إمكانية وضع خطة لتأسيس جامعة يهودية
.................................................
في 8 مارس 1918 رحلت أول بعثة صهيونية إلي فلسطين برئاسة وايزمان وقد استقبلها الملك جورج الخامس وأظهر له اهتماما عظيما بمشروعات الصهيونية وتمني له النجاح في مهمته. ووصلت البعثة إلي يافا في 4 أبريل 1918 ورحبت السلطة العسكرية بأعضائها وحل وايزمان ضيفاً علي اللورد" اللنبي" وأعطيت لها جميع التسهيلات في تنقلاتها لتقديم المساعدة لليهود وتلقي الإعانات المالية من الولايات المتحدة وبريطانيا والقيام بما تراه من التحريات والتدخل المباشر الصريح وعمت اليهود مظاهر الفرح إثر دخول البعثة فلسطين.
............................................................
في يناير 1919 عقد مؤتمر الصلح في فرنسا ولم يحضر أي ممثل من فلسطين وحضر الأمير فيصل نيابة عن أبيه الشريف حسين، ومن وقت وصول فيصل إلي باريس وبريطانيا تحاصره واستخدمت كل نفوذها لتجعل وضع وعد بلفور موضع التنفيذ وأن تكون هي الدولة المنتدبة.
......................................
في 4 أبريل من كل عام يخرج أهل القدس حسب عاداتهم لاستقبال أهل الخليل الذين يزورون القدس في نفس اليوم من كل عام قاصدين زيارة مقام النبي موسي وتصادف هذا اليوم أن يكون عيد الفصح عند المسيحيين وأثناء الاحتفال حدث أن صيدليا يهودياً يدير صيدلية في باب الخليل أهان المتظاهرين العرب وحاول الاعتداء علي علم الخليل فطارده المتظاهرون فلجأ إلي الصيدلية فهجموا عليه وضربوه حتّي أدموه، وجاء بعد ذلك شاب يهودي ومعه سبعة من الجنود البريطانيين وهجموا علي المتظاهرين وأطلقوا النار عليهم فأدي ذلك إلي موت تسعة أفراد وجرح المئات ولم يكتف الإنجليز بالتدخل ضد الأهالي بل شكلوا محكمة عسكرية لمحاكمة المتهمين وتشكلت لجنة لبحث أسباب الاضطرابات والتي أرجعت السبب إلي اليهود، وأُلغي تقرير اللجنة وتقرر عزل الجنرال موين القائد العسكري البريطاني في فلسطين وعُزل معه عدد من الضباط بعد أن اكتشف تعاطف هؤلاء الضباط مع أهل فلسطين وأدانوا في تقريرهم اليهود.
منذ ذلك الوقت اكتشفت اليهود أن بريطانيا لن تتردد في تنفيذ أية مطالب لهم طالما كانوا هم ملتزمين بقبول وضعهم كقاعدة عسكرية لتخدم بريطانيا. وقد تواكبت أحداث الاضطرابات في القدس مع عقد مؤتمر سان ريمو فأسرعت بريطانيا بالضغط علي الدول الأعضاء في المؤتمر لقبول فكرة الانتداب وتنفيذ نص المادة "22" من صك الانتداب. وأسرعت الدول الأعضاء بتصفية خلافاتها خاصة دول الحلفاء لدرجة أنهم أضافوا مادة جديدة إلي معاهدة سان ريمو، وهذه الفقرة: "توافق الدول الموقعة علي هذه المعاهدة بموجب المادة "22" من صك الانتداب وتعهد بإدارة فلسطين بالحدود التي ستقررها دول الحلفاء إلي دولة وصية تختار من الدول المذكورة وتكون الدولة الوصية مسؤولة عن تنفيذ التصريح الذي فاه به بلفور في نوفمبر في "1917" بالنيابة عن الحكومة البريطانية والذي وافقت عليه دول الحلفاء والواردة في تأسيس فلسطين. وقد اجتمع المجلس الأعلي للحلفاء في 25 أبريل 1920 وقرر وضع العراق تحت الانتداب الإنجليزي ووضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي ودخلت فلسطين تحت الانتداب البريطاني مع تنفيذ وعد بلفور. وبوضع فلسطين تحت الانتداب بدأت مرحلة جديدة ضمن مراحل تنفيذ حلم الدولة اليهودية علي الأرض العربية، وهذه المرحلة تعد أهم المراحل فطوال الفترة السابقة كانت البلاد موضوعة تحت إدارة عسكرية، وكان اليهود يرون أن الإدارة العسكرية لن تحقق لهم الآمال المرجوة، لذا قامت بريطانيا باستبدال الحكومة العسكرية بحكومة مدنية ووضعت علي رأس هذه الحكومة المدنية رجلاً صهيونياً لعب دورا هاماً في تاريخ اليهود، هذا الرجل هو السيد هربرت صموئيل أول حاكم مدني لفلسطين وكان تعيين هذا الرجل أول إعلان صريح عن إقامة الدولة فهو رجل يهودي الديانة وأحد المشاركين في صياغة وعد بلفور وقد حددت له مهمة أساسية وهي إرساء دعائم الدولة اليهودية في المنطقة العربية. وقد بدأ الرجل في تنفيذ المخطط اليهودي الإنجليزي بوضع البلاد في حالة اقتصادية وسياسية تخدم مصالح اليهود علي حساب العرب. فعن مخططه الاقتصادي قام بمنع تصدير الحبوب والزيتون وهما أساس ثروة البلاد، وذلك كي تصاب الأسواق بحالة من الكساد وتهبط أسعار الحبوب المصدرة ويعجز بالتالي الفلاح عن سداد الضرائب المستحقة عليها فيضطر لبيع أرضه لسداد الضرائب والديون.
..................................................................................
........................
وكانت الخطوة الثانية هي تصفية البنك الزراعي العثماني والذي كان يقرض الفلاحين وقام بالاستيلاء علي حصيلته بالإضافة إلي تحصيل ديونه قسراً من الفلاحين.
وقد عمل هذا الرجل علي نقل عملية الهجرة من حالة الخفاء إلي حالة العلانية، فمنذ عام 1921 كان يدخل فلسطين شهرياً ألف يهودي عن طريق الرحلات التي تأتي من الناحية الشمالية وعن طريق السفن التي تلقي بالمهاجرين الجدد في الأماكن المنعزلة من الشواطئ وأصبح هذا التهريب يتم بشكل منظم، الأمر الذي دفع الفلسطينيين أن يقوموا بأنفسهم بحراسة الشواطئ. وحدث ذات يوم أمام قرية أم خالد قرب مستعمرة ناتانيا اليهودية أن اكتشفت كشافة أبي عبيدة في طولكم محاولة لتهريب اليهود فهاجموا اليهود وحدث تشابك بين العرب واليهود وخشيت بريطانيا أن يسفر قيام الشباب العربي بحراسة الشواطئ عن كشف مخططها، لذا فقد أصدرت بيانا أوضحت فيه أن الجيش الإنجليزي سوف يقوم بنفسه بحراسة الشواطئ الفلسطينية لمنع دخول اليهود، حيث اعتمد الأسلوب الإنجليزي علي إبراز أن الإنجليز ليسوا أعداء العرب وأن العداء هو عداء عربي يهودي ليس للإنجليز دور فيه،
......................................................................
......................
وجاءت أول فرصة لتسليح اليهود بطريقة علنية أثناء حدوث اضطرابات "1929"، والتي عرفت باسم ثورة البراق بين اليهود والعرب وتفوق فيها العرب علي اليهود وخشي علي حياتهم من شدة العرب، وقتها قررت بريطانيا توزيع السلاح علي بعض شباب اليهود وأعدوا منهم قوة مسلحة تحت اسم بوليس المستعمرات وجعلوه تابعاً لإدارة الأمن العام ورخصوا في الوقت ذاته بتأليف فرق عسكرية تابعة للوكالة اليهودية بحجة الدفاع عن اليهود في حالة الطوارئ وانتدبوا لذلك بعض القادة البريطانيين لتدريبهم وكانت تلك الفرق هي نواة الجيش الإسرائيلي والتي أصبحت مع بداية الحرب العالمية الثانية فرقة مستقلة تحمل العلم الإسرائيلي وأصبحت أثناء الحرب لها علمها الخاص، وبذلك أصبح اليهود ملاك الأراضي داخل فلسطين وأصبح أيضا لهم بوليسي خاص وأصبح لهم جيش مستقل ولا ينقصهم سوي إعلان
..........................................
هذا الإعلان قد تأخر لقيام الحرب العالمية الثانية والذي تواكب مع بدء اختفاء نجم بريطانيا وبداية النجم الأمريكي في الصعود والتي كانت حريصة كل الحرص علي حسن علاقاتها مع أمريكا والتي لم تكن قد دخلت الحرب بعد، وكانت بريطانيا ترغب في دخولها إلي جانبها. ووقتها قرر اليهود تغيير قبلتهم من بريطانيا إلي أمريكا وعرضوا أنفسهم علي الأمريكان ليقوموا بنفس الدور الذي قاموا به لصالح إنجلترا، وذلك في مقابل الاعتراف لهم بوطن قومي في فلسطين.
وفي يوم 29 نوفمبر 1947 أصدرت الأمم المتحدة قرارها بالتقسيم، وبقي فقط صدور قرار الاعتراف بالدولة وكان لابد من الحصول علي اعتراف أمريكا أولاً لتسهيل الباقي. وفي 14 مايو وبعد لقاء دام عشر دقائق بين وايزمان وترومان أعلنت الولايات المتحدة اعترافها بالدولة اليهودية.