الجمعة 26 أبريل 2024 07:57 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

الدكتور بهاء درويش يكتب : بأي معنى يمكن اختزال الدين في علاقة شخصية بين العبد وربه؟

الدكتور بهاء درويش
الدكتور بهاء درويش

في معرض حديث مع أصدقاء – مفكرين-، فاجأني أحدهم بمعلومة لم أكن أعلمها وهي أن العلمانيين اتفقوا على تعريف أو مفهوم واحد للدين لا غيره وهو أن الدين علاقة (فردية) بين المرء وربه. ولأني باحث عن الحقيقة، فقد آليت – منذ زمن- على نفسي أن أتحقق من كل ما يخالف ما أراه، عسى أن يكون فيما يراه غيري الصواب، وبالتالي فإن أخلاقيات كل باحث عن حقيقة تقتضي أن يتنازل بسرعة عن رأيه الذي اتضح خطؤه ويتبنى الرأي الأكثر صواباً.

انطلاقاً من هذه المنهجية التي انتهجها لنفسي، سوف أناقش كل احتمالات اختزال الدين في "علاقة (فردية) بين العبد وربه" مناقشة عقلية لنرى مدى إمكانية قيامها من حيث الأصل ومدى إمكانية استخدامها كمفهوم للدين، من قبل أي فرد أو جماعة.

رغم أني منهجياً لا أحب أن أبدأ بالنتائج ولا أستحسنه- لأن هذا- من وجهة نظري- قد يفقد القارئ الحماسة لاستكمال القراءة طالما عرف النتيجة التي يريد أن ينتهي بها الكاتب، إلا أني هنا مضطر أن أبدأ بالنهاية- أي بالنتيجة- على أن تكون بقية المقال لتبرير هذه النتيجة تبريراً عقلياً صرفاً.

النتيجة التي سأنتهي بها- ولا أحسب القارئ الذكي إلا وقد استنتجها من مقدمة كلامي- هي أنه لا يمكن إختزال الدين في علاقة– فردية – بين المرء وربه.

إذا كان المقصود بالعلاقة الفردية بين العبد وربه أن الله وحده هو من يحاسب العباد محاسبة فردية لكل فرد، وأنه لا وساطة لأحد على العباد، فلا خلاف في هذه الجزئية التي تشكل جوهر مفهوم المسؤولية الفردية في الدين: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، و(كل نفس بما كسبت رهينة). فطالما بلغ المرء سن البلوغ، أصبح مسؤولاً قانونياً وشرعياً على أفعاله، ولا وصاية لأحد عليه.

يمكن أن نجد لهذه الجزئية تفسيرات وتبريرات فلسفية. لقد رفض الكثير من الفلاسفة وعلماء الأنثربولوجيا المفهوم الديكارتي للذات المنعزلة التي تقف وحدها تكتشف ذاتها أولاً ثم تكتشف موجودات العالم الأخرى، فالمرء لا يفهم أو يدرك ذاته فهماً نظرياً، ولكنه يكتشف ذاته أو ماهيته من خلال شبكة العلاقات التي تربطه بغيره في العالم الذي يعيش فيه والتي من خلالها فقط يفهم أو يكتشف ذاته. وإن كان هذا الفهم للذات الذي يتحدد من خلال العالم المحيط لا يلغي حرية المرء، فالمرء لا يفهم ذاته وحسب من خلال هذا العالم المحيط، بل ويحدد ذاته أيضاً من خلال هذا الإطار، إذ ما زال بإمكانه أن يختار ويحدد ذاته على النحو الذي ذهب إليه الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر. ولكن تبقى الحقيقة أن هذا الاختيار اختيار من ميدان محدد ومحدود وجدت فيه الذات، وبالتالي فهذا الميدان يحد إلى حد ما من حرية المرء.

أيضاً، يرى البعض- مثل الفيلسوف وعالم الاجتماع الأمريكي جورج هربرت ميد- في تفسيراتهم للفرد أن وعي المرء بذاته يتحدد جزئياً من خلال رؤية الأخرين له، وأن فهمه للأشياء قد يتأثر من خلال رؤية الآخرين لها.

يرتبط الفرد- إذاً- بوشائج مجتمعية تحدد جوهره وقد تحد من فهمه للدين وتطبيقه لشرائعه. فقد يساعده المجتمع على فهم دينه وحفظ آياته وأداء شعائره، وقد لا يساعده. يتحدد فهم المرء للدين- إذاً- بالظروف المجتمعية والتاريخية التي وجد فيها، وبالتالي فالله العالِم بكل هذا والعالم بكل شخص هو من سيحاسب الناس وفقا لما يعذرهم بخصوصه وما يقدره لظروفهم.

أما إذا كان المقصود بالعلاقة الفردية أن نسمح لكل فرد بفهم خاص لكل منا للدين، فهذه إما دعوى للفوضى أو دعوى للكفر وإنكار الإسلام أو فهم متناقض. فهي دعوى للفوضى لأن هذا الطلب يشبه الطلب أن نترك لكل شخص أن يفهم القانون فهماً خاصاُ به ولا يحق لأحد أن يحاسبه على الأفعال الناتجة عن هذا الفهم الخاص. هذا سيؤدي بالضرورة إلى فوضى، إذ لن يصبح هناك تشريع منظم لشؤون الحياة يمكن تنفيذه، وستتحول الحياة إلى فوضى.

أما القول بالاستبدال التام للقانون بالدين، فهو قول يعني رفض الدين تماماً وإحلال القانون الوضعي مكانه. والدين الاسلامي جاء منظماً لحياة المسلم. فهذا إنكار للدين والإسلام لأنه إنكار لما جاء به الدين.

وأن تقبل أن هناك إلهاً وإسلاماً يعني بالضرورة أن تقبل ماجاء به كتاب الله وما أكثر الآيات التي جاءت منظمة لحياة المسلم وعلاقاته بغيره من المسلمين وغيرهم. ما معنى أن تقبل وجود الاسلام وتعترف به ثم تطلب قوانين وضعية بديلة عنه؟ هذا تناقض.

الأصح أن نقبل الإسلام وشريعته كمرجعية تضع الإطار العام الذي نصيغ القوانين الوضعية المنظمة لحياتنا وفقاً له ومراعاة له. أي أن نتعامل معه من حيث كونه الدستور الذي يمكن انطلاقا منه صياغة قوانين وتعديلها دون المساس بالدستور. الذين يرفضون هذا الرأي يستندون إلى صعوبة جمع كل المسلمين تحت فهم واحد، يلتزمون معه بقوانين واحدة؟ ويستندون في ذلك لتاريخ الاسلام الذي شهد على اختلاف أهل مكة مع أهل المدينة والسنة والشيعة بطوائفها والمتصوفة باتجاهاتها الخ.

الرد ببساطة أنه ليس من الضروري جمع كل المسلمين تحت رأي واحد فيما يتعلق بكل مسألة، فنصوص الإسلام من المرونة بحيث تسمح لتفسيرات متعددة تصلح لكل زمان ومكان. ولكن المهم أن تكون هناك قوانين حاكمة وحامية للمجتمع وصل إليها المجتمع الواحد وارتضاها وشارك ممثلوه في صياغتها تراعي في خلفيتها المرجعية التي أمر الله بها.على هذا النحو لا تندرج (عملية التشريع) أي (فهم النصوص وإصدار الأحكام الفقهية) ضمن تصور الوصاية المرفوض، فالتشريع مهمة علماء الدين ولا تعد هذه وصاية منهم على أحد بل هي من صميم عملهم وواجبهم وإن لم يكن هناك بأس من مشاركة المجتمع في هذه المهمة. أما الوصاية المرفوضة فهي الإشراف ومتابعة تنفيذ تعاليم الله، فهذه مهمة متروكة لله يحاسب من يشاء ويعفو عمن يشاء دون تفتيش في ضمائر الخلق أو نصب أنفسنا مسؤولين عنهم، وتحديد من المذنب ومن المصيب.

هل المقصود بالعلاقة الفردية بين العبد وربه تصور ميتافيزيقي أن بيد الله وحده تحقيق حاجات الفرد وأن العبادة من صلاة وصوم وغيرهما من عبادات هي علاقة فردية بين العبد وربه؟ وأن قوام الدين هو التوجه لله وحده لتحقيق حاجات الفرد، ومن ثم أداء العبادات؟

لنبدأ بمفهوم العلاقة الفردية بين العبد وربه بالتوجه لله لتحقيق الحاجات:

لما كان الفرد يحيا بالضرورة في مجتمع ما وكانت هويته في أساسها هوية مجتمعية بالمعنى الذي أوضحناه، كان من الطبيعي- نتاجاً لذلك- أن تكون حاجات ورغبات المرء حاجات مجتمعية أي حاجات نشأت كنتيجة لوجود الفرد في مجتمع، أو حاجات خاصة يتعلق تَحقُقُها بأفراد آخرين، فلا وجود- وفقاً لهذا التصور- للقول أن العلاقة بين العبد وربه علاقة فردية، ولكنها- متى اتجه لربه لتحقيقها- كانت علاقة قوامها حاجة المرء لله لتنظيم علاقته بغيره. وهو ما انطوى عليه شرع الله بالفعل.

حاجات الفرد المجتمعية نوعان: حاجات مادية وحاجات روحية- جميعها حاجات تربط صاحب الحاجة بآخرين، وبالتالي فإن تطلب من الله تحقيقها هو أن تطلب منه أن ينظم لك علاقتك بغيرك من بني البشر وهو ما انطوى عليه الشرع.

فإذا كان المرء ممن يعتقدون أن في يد الله تيسير الأمور (تيسير الحاجات المادية مثل تيسير أمر زيجة مهينة، توفيق في الحصول على عمل ما، في شراء منزل، فيلا، سيارة..الخ) فما يطلبه من الله هو تحقيق لرغباته في ظل مجتمع يرتبط معه بوشائج كثيرة وبالتالي فما يعتقد أنه علاقة فردية بينه وبين الله هو في حقيقتها دعاء لله أن ينظم له علاقته بغيره من البشر على نحو ما، فييسر له أمر الزيجة أو يحقق رغبة الحصول على الوظيفة...الخ من الحاجات الدنيوية.

وقد لا تكون الحاجات حاجات مادية تجعل العلاقة الخاصة مع الله علاقة نفعية لتحقيق أغراض مادية، ولكن قد يطلب المرء من الله تحقيق أمور روحانية مثل تحقيق السكينة والرضا، هنا نجد أن ما يطلبه المرء في الحقيقة إنما هو تحقيق سكينة ورضا في مواجهة مجتمع أو ظروف حياتية تسبب له ضيقاً أوصله لهذا الطلب. أي أن ما يطلبه المرء في الحقيقة هو تنظيم الله لعلاقته مع غيره من البشر، بأن يبعد عنه شرورهم، أو يحقق له سعادة من خلال أفراد معينة. وهو ما نظمه الشرع أيضاً وأعلمنا بوسيلة تحقيقه.

هل العبادات علاقة فردية بين العبد وربه؟

حتى هذه الجزئية لا تبرر القول أن الدين علاقة فردية شخصية بين العبد وربه لأن هذا سيعني إما قصر مفهوم الدين على العبادات وهذه تجزئة مخلة وإنكار لأمور معلومة في الدين بالضرورة، من تنظيم الدين لعلاقات الزواج والطلاق والميراث والبيع والشراء وسائر المعاملات المالية الأخرى من اقتراض ورد وإلتزام بالعهود والقيم الأخلاقية الواجب توافرها بين المسلمين بعضهم وبعض وبينهم وبين غير المسلمين، وإما تناقض ناتج عن الإيمان بالله والاعتقاد بأنه خالق هذا الكون المنظم له والذي يستحق منا الصلاة والصوم وسائر العبادات، ثم نرفض بقية أوامر ونواهي الله التي أرسلها في كتابه الحكيم منظماً بها الشؤون الدنيوية.