السبت 27 يوليو 2024 04:55 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

فنون وثقافة

د.كمال يونس يكتب : حتى آخر الليل

دكتور كمال يونس
دكتور كمال يونس

فر من قريته التي عاش فيها طفولة بائسة مع والديه وشقيقاته، فقر مدقع ،بيت ريفي متهالك،أبوه فلاح أجير ،أمه خادمة متنقلة بين بيوت القرية،مابين خبيز،عجين،غسيل ملابس،تنظيف، وكذلك أشقاؤه وشقيقاته،جميعهم لم يذهبوا للمدارس إلا هو ،وكان محط احتقار زملائه لفقره ،معتبرينه خادما ابن خادمة ، تحمل على ضجر وملل،حتى حصل على الإعدادية بتفوق، أخذ ملفه وملابسه القليلة،وبضع جنيهات ادخرها على مدى سنوات من عمله في الفلاحة في الإجازات،وبعد عودته من المدرسة، ركب القطار قاصدا حي سيدنا الحسين بالقاهرة،عمل في أحد المطاعم ، ساعده صاحب المطعم بعد أن أخبره أنه يتيم في الالتحاق بالمدرسة الثانوية ،سمح له بالمبيت في المخزن القريب من المطعم ، كان أثناء الدراسة يبدأ عمله في تنظيف المحل من بعد الفجر حتى موعد المدرسة ، نجح وحصل على الثانوية بتفوق، لم يداعبه الحنين لأي شىء يمت بالصلة لماضيه ،التحق بكلية الحقوق، وكمان من بين مسوغات القبول الموقف من التجنيد ، حصل عليه بطريقة قانونية ، وانتظم في الدراسة تخرج بتفوق ،ومازال يعمل بالمطعم حتى عين معيدا بالكلية ،لحسن حظه أعفي من التجنيد لمعاناته من القدم المفلطحة ، استقل بنفسه ،أستأجر شقة في المنيل ،فرشها بالتقسيط، بعيدا عن حي الحسين بأكمله، خاصة بعد وفاة الرجل النبيل صاحب المطعم الذي باعه الورثة، حصل على الماجستير والدكتوراه ، جمع الحب بينه وبين ابنة أستاذه زميلته بالكلية ،لماذا لاتفاتح أبي في أمر زواجنا، أخشى أن يرفضني ،تعلمين أنني يتيم الأبوين ،ليس لي أقارب ،أنتم من أنتم ،عائلة كبيرة ،لاعليك سأقف بجانبك ،وأمي وأبي لن يمانعا ، ها أنت مدرس بكلية الحقوق ،وستترقي إن شاء الله لتصل للأستاذية،وافق الأب،تزوجها ، ترقي إلى درجة أستاذ مساعد ،سافر لأحد الدول معارا،بعد عدة سنوات عاد وزوجته وأولاده ليقيما في فيلا بأحد المدن الجديدة، على بابها يافطة تحمل اسمه كاملا .
لفت نظر أحد البوابين الجدد- لفيلا في مواجهة فيلته- ذلك الشبه بينه وبين عمه،والاسم أيضا ،فلقد كان لعمه ابنا لايعلمون عنه شيئا منذ أن كان في الاعدادية، دائما يتذكرونه ،والدموع في أعين الأم والأب، تقرب منه البواب ،ليتفحصه عن قرب حتى يتأكد من ظنونه ، استضاف البواب عمه وزوجته،ليزورا السيدة والحسين ، جلس البواب وعمه أمام الفيلا المواجهة لفيلته لمحه الأب ، ملأت نفسه مشاعر غريبة غامضة ، سأل ابن أخيه عن اسمه ،أخبره عن الاسم كاملا،الأب هل معقول أن يكون ظني في محله، لم يخبر الرجل زوجته،وجلسا أمام الفيلا حتى عاد الدكتور ،نزل من سيارته ،فتح شنطة العربية ،أخرج منها بعض أكياس أطعمة ومستلزمات منزلية ،اصطحب الرجل زوجته بسرعة ليعيناه ، لم يمانع ،ولم يعرهما أدنى اهتمام ،أخرج محفظته، ليعطيهما نقودا لمساعدتها إياه ، استدار فجأة لتقع عينه على عين أمه ،تجمدا كل في مكانه، فجأة نطقت باسمه ولدي ،نعم أنت ولدي ،قلب الأم لايخطيء،استدار ليجد أبيه يحملق فيه ،نعم أنتما مثل والدي ووالدتي الله يرحمها ،لا بل أنت ولدي،أنا أمك،أنا أبوك، زجرهما ،هيا انصرفا من هنا، مناديا على البواب ابن عمه الذي يراقب المشهد عن بعد ،ابعدهما عني ،الله يسهل لهما ،ثم دخل فيلته ،وأغلق الباب بقوة في وجهيهما ، لاتبك يا زوجتي الغالية فلنعتبره ميتا،بل مات اليوم ،مللنا من انتظار عودته،لم نفقد الأمل يوما ، اصطحب ابن أخيه إلى جريدة الأهرام،وبعد أن تأكدوا من هويته ، نشر ت الجريدة نعيا لابنه الأستاذ الدكتور فلان الفلاني ،والعزاء ببلدتهم اليوم،تملكت الدهشة حماه ،اتصل بابنته،زوجي بخير ،ذهب الجريدة تأكدت من بيانات الناشر ،نفس اسم والد صهره ،أصر أن يصحبه للعزاء في القرية،ما إن رآه الأب إلا وأشاح بوجهه عنه ،ولم يفته أن يرحب بصهر ابنه ، باكيا الفقر ليس عيبا ،ليس ذنبا ، ورفضت الأم حتى النظر إليه، كذلك أشقاؤه وشقيقاته ،انصرفا ،الدموع تفيض من عيني صهره ،أماهو فلم ينطق بكلمة ،وقد أسود وجهه، استمر العزاء حتى آخر الليل .

3289b434dc3b.jpg