الخميس 28 أغسطس 2025 08:11 صـ
الجارديان المصرية

رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير عبد النبى عبد الستار

مقالات

السيناريست عماد النشار يكتب : كَوْكَبُ اللَّامِعْيَارِيَّةِ.. حَيْثُ المَنْطِقُ جَرِيمَةٌ وَالحَمَاقَةُ فَضِيلَةٌ!

السيناريست عماد النشار
السيناريست عماد النشار

في يومٍ ما، كان للعالم كتالوجه الخاص، قواعد تُحترم، وثوابت تُبجّل، حتى جاء عصر اللامعيارية ليقلب الطاولة على كل ذلك. وكأننا نعيش في مسرحية عبثية، حيث يؤدي العقلاء أدوار الكومبارس بينما يتصدر الحمقى خشبة المسرح، يلوّحون بأيديهم معلنين أن القواعد القديمة لم تعد صالحة، وأن الفوضى قد أصبحت دستور الحياة الجديد.

ومصطلح "اللامعيارية" التي حوّلت العالم إلى سيركٍ فوضوي، يعود لعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم، الذي لم يكن ليصدق أن فكرته عن الانهيار القيمي ستتحول إلى عنوان هذا العصر. في عام 1893، وصف دوركايم "الأنومي" بأنها الحالة التي تنهار فيها القيم والمعايير الاجتماعية، تاركةً الأفراد في حالة تيه وضياع. آنذاك، كان الرجل يتحدث عن تغيرات اجتماعية طبيعية، لكنه لم يكن يعلم أن القرن الحادي والعشرين سيأخذ نظريته ويرفعها إلى مستوى جديد كليًا من الجنون.

فلننظر إلى العالم من حولنا الذي تحول إلى خشبة لمسرح العبث، حربٌ وحشية تُشن على غزة، الأطفال يُقتلون بدمٍ بارد، المنازل تُهدم فوق رؤوس سكانها، والمجتمع الدولي؟ صامتٌ كأن على رأسه الطير، يراقب المشهد وكأنه حلقة من برنامج "تلفزيون الواقع"، حيث الموت مادة إعلامية والإبادة مجرد "تريند". في المقابل، الشعوب تهتف وتحتج، لكن الأنظمة ترد ببرود بيروقراطي معتاد: "لقد أعربنا عن قلقنا البالغ". يا لها من مأساة عندما يصبح القلق هو أقصى درجات الشجاعة السياسية!

ولإتقان الحبكة، ولتحظى مسرحية اللامعيارية العبثية بكل عناصر الدراما، كان لا بد من مؤلف وممثل ومخرج يحمل المادة الخام لجينات هذه الفوضى. فجاء دونالد ترامب، العائد ليجتاح عناوين الأخبار من جديد بسلسلة تصريحات جنونية تتحدى قوانين الفيزياء، والمنطق، وأي شيء يمت للعقل بصلة. إنه الرجل الذي يستطيع في جملة واحدة أن يدعو إلى حرب، ويروج لوجبة بورجر، ويسب خصومه، ويخلق "حقيقة بديلة" تناسب أجندته. كل ذلك في خطوة واحدة، وبنغمة واحدة، حتى تبلغ اللامعيارية ذروتها!

أما نحن، وأعوذ بالله من قولة نحن، فبلا فخر لدينا نسختنا الخاصة من هذه الظاهرة! حوادث قتل بشعة تقع لأسباب أكثر تفاهةً من تعليق على فيسبوك، وأشخاص يطعنون في الثوابت والقيم تحت شعار "التنوير"، لكن التنوير عندهم لا يعني سوى الهجوم على المعتقدات والرموز، دون أن يقدموا بديلاً سوى ضوضاء فكرية أقرب إلى مهرجان من "الخبط والرزع" والإسفاف، حيث ترتفع الأصوات، وتنخفض العقول، ويختفي أي أثر للمنطق وسط فوضى الادعاء!
"أما المشهد الثقافي، فـ"اسم النبي حارسه"، فقد تحول إلى حفلة تنكرية، حيث يرتدي التافهون أقنعة المفكرين، ويتصدرون المشهد الأدبي وكأنهم سقراط وأرسطو، بينما يُزاح الحكماء الحقيقيون إلى الظل، كأنهم ضيوف غير مرغوب فيهم. صار كل من يمتلك ميكروفونًا في "بودكاست" أو صفحة نشطة على مواقع التواصل خبيرًا في الفلسفة، ، وعلم النفس، واللاهوت، والاقتصاد،، والشعر بأنواعه،جاهلي ومجهول النسب حتى الساقط قيد، وعليهم "تحبيشة" فيزياء كمية، بل ويشعر بثقة كافية ليحاضر في كل ذلك دفعة واحدة، بينما يُترك المثقفون الحقيقيون لقراءة كتبهم في صمت، كأنهم آخر الناجين من سفينة الثقافة التي أغرقها صخب الجهل!

على مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت الرداءة هي العملة الرسمية. شخصٌ يصوّر نفسه وهو يأكل بطريقة مقززة، يحصد ملايين المشاهدات. فتاةٌ ترقص بلا هدف، تتحول إلى أيقونة اجتماعية. محتوى بلا قيمة، بلا هدف، بلا عقل، لكنه يحقق أرباحًا تفوق ميزانية بعض الدول. هل هذه حرية شخصية؟ أم أن اللامعيارية قد بلغت حدًا جعلنا نعيد تعريف "النجاح" ليصبح مرتبطًا بمدى القدرة على الانحطاط وإهانة الذوق العام.

أما الدراما والأغاني، التي تحولت من قوة ناعمة إلى نواعم وانحلال، فلا داعي حتى لمناقشة مستوى الانحدار، فبعدما كنا نشتكي من الخيبة في الماضي "سبت وحد' ، الحمد لله الوقت كبرت وبقيت "ما وردتش على حد"!. لقد تجاوزنا مرحلة "الهبوط الاضطراري" إلى "الغوص الإرادي". كنا يومًا في عصر أم كلثوم وعبد الوهاب، وعكاشة ووحيد حامد، ومحرم ويوسف جوهر، أما اليوم فنحن نحتفي بأغانٍ كلماتها أقرب إلى كود سري لفك شفرة الجنون، بينما تُعرض مسلسلات تروج لكل ما هو هابط، كأنها دليل المستخدم للانحراف السلوكي!

هل يعني هذا أننا في طريق اللاعودة؟ هل نحن محكومون بالتيه الأبدي في صحراء اللامعيارية؟ لا، فالخروج من هذا المستنقع لا يزال ممكنًا. المجتمعات مرت بأزمات قيمية كثيرة عبر التاريخ، لكنها وجدت طريقها إلى التصحيح. الحل لا يكمن في أن نتحسر على الماضي، بل أن نستعيد بوصلة المنطق والقيم. أن ندرك أن الصخب لا يعني بالضرورة قيمة، وأن "التريند" لا يعكس الحقيقة، وأن الشهرة لا تعني الحكمة.

أما على المستوى الفردي، فربما حان الوقت لثورة شخصية، كلٌ منا في مجاله، لنرفض الرداءة، لنُعيد الاحترام لما يستحق الاحترام، ولنُمارس وعينا كأداةٍ للمقاومة. فالعقل هو آخر خطوط الدفاع، وإذا سقط، سقط كل شيء.

إن لم نفعل ذلك، فربما نستيقظ ذات يوم لنجد أن العنوان الجديد للعالم هو: "مرحبًا بكم في جمهورية اللامعيارية، حيث المنطقُ محظور، والحماقةُ مُرحَّب بها!"